كتبتُ -وغيري- عنها، وحذَّرْنا من الانسياق وراءها، وأكَّدنا على ضرورة التصدي لها والحد منها. تلك هي (القَبَلِيَّة) التي أطلَّت برأسها من جديد بعد أن خمدت عقودًا من الزمن شُغِل الناس فيها بمعاشهم وتنمية وطنهم الكبير. فمنذ أن أطلَّت (القنوات الشعبية) عادت القَبَلِيَّة جذعة تثير نقع التفاخر واجترار الماضي بكل حمولاته الواقعية مضافًا إليها أحمالاً ضخمة من الزيف والمبالغة التي تَصنع من القبِيْلة دولةً ذات ريادة، وتصنع ممن يسمَّون (رموزًا) زعماءَ وفاتحين. بالأمس وجَّه مستشارُ خادم الحرمين الشريفين أميرُ منطقة مكة الأمير خالدُ الفيصل المحافظين ورؤساءَ المراكز بعدم إقامة حفلات التكريم الجماعية -التي تقام في العادة لمَن أوهموا الناس بأنهم رموز وبعضهم لا يتعدى كونه (شاعر محاورة)- مؤكدًا سموه على أن التكريم يكون لمن قدَّم أعمالاً وطنية خالدة، أو لشاعر ينافح عن القضايا الوطنية أو قضايا الأمة، مستشهدًا سموه بما تشهده تلك التجمعات من تجاوزات أمنية ومناوشات تشغل الجهات الأمنية. مضيفًا سموه: «من يريد أن يكرم أحدًا من أفراد قبيلته فعليه أن يكرمه في بيته». نغمة التكريم المتنامية في الآونة الأخيرة لم تكن للتكريم ذاته؛ وإنما هي وسيلة لبلوغ غاية تتمثل في التفاخر (المذموم) بالقبِيْلَة، ومكايدة القبائل الأخرى في شخص المُكرَّم. الأعجب أن حفلات التكريم (الجماعية الضخمة) لم نسمع أنها أُقيمت لرمز برع في مجال مهنته التعليمية أو الطبية أو الهندسية أو العسكرية، أو لمبدع أو لصاحب مُنجَز علمي أو تضحية وطنية. قضية التكريم هذه لم تقتصر على التكريم الفردي بل تخطت ذلك للتكريم الجماعي لثلة من أبناء القبيلة بالآلية نفسها وللغاية ذاتها، بل وصلت لما يُسمى بـ (الملتقيات القَبَليَّة) التي تتم داخل القبيلة بحجة زيادة الترابطِ والهدفُ خلاف ذلك، وأحيانًا يُقام الملتقى في عدة مدن بحجة التعارف بين أبناء القبِيلة وكأننا نعيش زمن الاغتراب. الكرة الآن في ملعب لجنة التنمية الثقافية بإمارة منطقة مكة ومحافظِي المحافظات ورؤساء المراكز، فعليهم تقع مسؤولية تنفيذ ومتابعة توجيه سمو أمير المنطقة بكل حزم. هنا لا يغيب عنا قيام محافظ ظهران الجنوب (محمد القرقاح) ورئيس مركز الحرجة -قبل أشهر- بواجبهما الوطني عندما تصديا بحزم لمن أراد أن يثير النعرات القبلية حينما بدأ يفاخر بقبيلته، وأيَّدت إمارة عسير ما قاما به واعتبرته إجراءً نظاميًّا ضد كل ما يعمل على تفكيك اللحمة الوطنية. لقد كدنا ننسى-في زحمة البهرجة والمبالغة في الاحتفاء بمن يسمون الرموز القَبَليَّة- رموزَنا الوطنيةَ السامقة والرموزَ التاريخية الإسلامية والعربية التي خلدتها أفعالهم المجيدة. ولذا فمن كان معيار ولائه لرموز قبيلته مرتفعًا فليفتح لهم (مصاريع داره) لا أن يثير النعرات القبلية فيملأ الفضاء جعجعة ويَشُقَّ على الخَلْق ويُشغِل الجهات الأمنية.
الرموز القَبَليَّة وفوضى الاحتفاء
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://hobasha.com/articles/99032/