الاثنين ٢٠٢٤/٩/٢٣
كنتُ نائمةً في فراشي.. في أمنٍ ودَعة ،كما أنامُ كلَ ليلةٍ في بلادي.. لا يوقِظُني سوى أصواتِ المآذن.. ترشُ الفجرَ بقطراتِ الحياةِ.. وتوقظ ُالليلَ بأنامِلها الرقيقة..تدعوهُ إلى الصلاة ..
التي تدعوه إلى الفلاح ..والنجاح ..وعِمارة الأرضِ بالصبرِ والحبِ والكفاح..
بينما أنا كذلك إذ بالبابِ يطرقُ طرقاتٍ خفيفةٍ.. كطرقِ حباتِ المطرِ الناعمةِ.. على شبابيكِ الربيعِ الفاتنة..
أوقدتُ مصباحي.. ومضيت لأفتحَ البابَ.. دون خوفٍ أو وجل..ففي بلادي لا يطرقُ الأبوابَ ليلاً سوى الأحلام.. ،والأمنياتِ الغارقةِ في الحبِ والسلام..
كان الطارقُ فارساً مُهيب الطلعة.. سامقَ القامة.. منيرَ الوجه.. وضاحَ الثنايا.. يعلو ثيابَه البيضاء ...عمامةٌ خضراء.. ُيخفي بها هامتَه الفارعةَ ..كنخلةٍ شماء..
ودون أن ينطِق أحدُنا بحرفٍ واحد..
حملتُ متاعي.. وركبتُ راحلتي وسرتُ خلفه تحت ضوءِ القمر.. وصمتِ الصحراءِ المُهيب..
،لم يكن هذا الرجل بالغريب، ولا المريب،ففي كلِ عامٍ يطرقُ بابي في مثلِ هذا الوقت،لكنني في كل عامٍ أعيشُ معهُ رحلةً مختلفةً تماماً عن تلكَ التي قبلها..
سرتُ خلفه.. والقمرُ يتبعُنا، وقد أسدلَ أنوارَهُ الفضيةَ على صدرِ الصحاري الممتدةِ بلا انتهاء،
وصلنا إلى واحة بيرين أخيرا..وأنخنا رحالَنا ..وشدينا خيمتَنا..، وأوقدْنا نارَنا
..عندها طلب الفارسُ من القمرِ أن يتنحى عن مكانِه العالي بين النجوم وأن يفترِش حصيرَنا ويحتسي فنجانَا من قهوتِنا السعودية ،وأن يختبئَ في خيمتِنا عن أعينِ السمار ...فضحك القمر..وأشرقت لضحكَتِهِ روابي نجد.. وتراءت جبالُ طويق لهاماتِ السراة..وتبسمت ينابيعُ الأحساءِ لصحراءِ الدهناء،وطار حمامُ مكةَ في أسرابٍ فاتنةٍ إلى المدينة.
.وتثاءب البحر آمنا في أحضانِ جدة،ولوحت أجا وسلمى لأمواجِ الخليج!
جلسنا ثلاثتنا على بساطِ الذكريات،
وكأن الليلَ يرددُ صهيلَ الخيل، والأرضَ تعزفُ موسيقاها الملكية تحت سنابِكِها الذهبية، سنابِكِ منيفة وعبية والصويتية التي امتطى صهواتِها الملكُ المؤسسُ ذات يوم ؛ليحرق أيام الظمأ بشرارةٍ من سيفه،فتطير رؤوسُ الشياطين وتبتلِعُها الأرضُ دونَ رحمة!
سكنَ الليل ، وهجعت الصحراء وراح القمرُ يحكي للرمالِ الساكنةِ روايته الحزينة:
كان ياماكان:
كان هناك جزيرةٌ تقاسمتْها الأحزان ،شهدت عذاباتِ البشريةِ وآلامِ الإنسان،
فلا أمنٌ ولا أمان،ولا خيرٌ ولا إحسان،
جوعٌ وفقرٌ وخوفٌ وحرمان،
وعصاباتٌ تطوقُ المكان
،وغاراتٌ في الليلِ ..وثارات في النهار، سرقةٌ في وضحِ الشمس، وقتلٌ وسبيٌ وأسرٌ وموتٌ ورمس!
كان الفارسُ يستمعُ في أسىً وهو يخطُ الأرضَ بعصا طويلةٍ من نباتِ الشوحط.
واستأنف القمرُ حكايتَهُ الدامية:
لطالما غِبتُ عن ليالِي الجزيرةِ الحالكات،فشُنّتْ الغارات،وانتُهكت الحُرُمات..وانتشر قطاعُ الطرقِ في الطُرُقات،وضجّ الأولادُ وبكتِ البنات، واستغاث الشيوخُ والنساءُ القاصرات، وانتشرت البدعُ والخرافات،فالناسُ أحياءٌ وهم في واقعِ الأمرِ أموات!
هبّ الفارسُ واقفاً مقاطعاً القمر،وقد ضاقَ ذرعاً بما سمع،وأشهر سيفَه الصقيلَ من غِمدهِ ،وصاح بصوتٍ جهوريٍ هزّ أستارَ الليل ومزّق سكونَ الرمال،وأيقظ الصحراءَ من سُباتِها الطويل:
الملك لله ثم للملك عبد العزيز
هنا توارى القمر،تاركا دموعَه على الحصيرِ والرمال.
.وأشرقت الشمسُ من خلفِ الجبال.
.وقالت لامحالَ مع أسدِ الجزيرةِ لا محال..
أشرقَ وجهُ الفارسِ النبيل.. وهو يستقبلُ الشمسَ بقامتِه الفارعة ..
وطلتِه الفارهة..
ثم قال :
وبعد روايةِ القمرِ التي كانت تحت أستارِ الليلِ البهيم.. والحزنِ المقيم
إليك روايتي ذاتُ اللونِ الأخضر.. والمجدِ المسطر.. والفجر المعطّر.
تبسّمتِ الشمس.. وقد أرسلت جحافلٌ من نورِها الوهاج..يغسلُ الخليجَ بالأمواج..ويعلق صحاري القيظِ بسماءٍ ذاتِ أبراج..وتدلّى من صدرِها الرحب.. لبطل الجزيرة الشاب.. خريطةً وسراج
..ليميط عن وجهِ بلاده الكالح.. لثامَ الفقرِ والجهلِ والجوعِ والحاجةِ والاحتياج..
فيما كان الفارسُ النبيلُ يخطُ الأرضَ بعصاه.. وهويتحدثُ بزهوٍ عن وطنٍ انشقّ نهارُه.. ليهزمَ جحافلَ الليلِ.. ثم يُحيلَها إلى رماد..
بحث الفارسُ النبيلُ بعصاهُ في الرمالِ الناعمة ..وأغمض جفنيه على أحداثٍ مهولة،صنعت تاريخَ البلاد،التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.
الليالي الخالدةُ في ذاكرةِ الوطن.. لازالت تمدّ الصحراءَ الغامضةَ ببوحِها ،وتوقدُ جِذوةَ النهارِ الباسمِ بلهبِ المعاركِ.. التي جرت تحت أستارِ الليل ، وتتخذُ من جماجمِ الأبطالِ كواكبَ درية.. تضيءُ بواباتِ المستقبلِ الموعود..
ليلةُ الخامسِ من شوال.. مازالت مستيقظةً في ضميرِ الرياض.. منذ قرنٍ وربع القرن تقريبا..وروضة مهنا والبكيرية والدلم والشنانة.. مازالت تشعلُ النارَ في ذاكرةِ الصحراء.. كلما استبدت بها ليالي الشتاءِ الطويلة…
تنحنح الفارسُ فعلمت أنه سيوجه لي الخطاب:
فقال:
هذه المرة الرابعة والتسعون التي أعود فيها إليكم،فأجدكم تسابقون زمانكم ،تقطفون ثمرةَ الحضارةِ دون أن تتكسرَ أشواكُها في أيديكم الناعمة،وتغمسون أيامَكم في نضارةِ الرفاهية،وتعُبُّ طرقاتكم الطويلة،من أنهارِ الأمان حتى تفيضُ أطرافُها
حافظوا على هذه النعم،واحفظوا هذا الوطن،الذي بناه أجدادُكم العظماء:
فارسُ الجزيرةِ المغواروبطلها الأوحد الملك عبد العزيزوأبنائه من بعده فأنتم ذخرٌ لهم وهم ذخرٌ لكم.
عندما أعود أليكم العام القادم في نفس هذا التاريخ،أريد أن أعود وأنتم أكثر قوة وتماسكا،نابذين الفرقة والخلاف، ساحقين التطرف والإسفاف،لا إفراط ولا تفريط، بل سير على الطريق القويم، الوسطي المستقيم.
أريد أن أعود يا أحفادَ آلِ سعود :.وأنتم تحلمون وتحققون..!