حالة فريدة ربما لا توجد إلا في محافظة العُرْضِيَّات -أقصى جنوب منطقة مكة المكرمة في القطاع التهامي الجبلي بين منطقتَي الباحة وعسير- وإن وُجِدت في غيرها؛ فربما لا تكون بالحضور ذاته الذي توجد به في محافظة العرضيات، وهذه الحالة لا تشمل محافظة العرضيات كاملة؛ وإنما تتركز في نصفها الشمالي. ومهادًا لهذه الحالة؛ فموقع العرضيات الجغرافي يجعلها بمثابة نقطة التقاء بين لهجتين، بينهما شيء من المغايرة؛ فإلى الجنوب من العرضيات تقع منطقة عسير، ومعلوم أن أهالي تهامة منطقة عسير -وخاصة كبار السن- يستخدمون (أم-إم) الحِمْيَرية بدلاً من (أل) التعريف، فيقولون (أمجبل، إمسيارة) بدلاً عن الجبل والسيارة، وبحكم مجاورة العرضيات لعسير؛ فقد امتدت هذه اللهجة لتشمل النصف الجنوبي منها لكن بشكل أقل مما هو مستعمل في تهامة عسير. وإلى الشمال من محافظة العرضيات تقع منطقة الباحة، وفي الباحة يكثر استخدام (أل) التعريف في منطوق الناس، ومع مجاورة محافظة العرضيات للباحة إلا أن (أل) التعريف ليس لها تأثير واضح في منطوق سكان النصف الشمالي من العرضيات، لكننا نجد في هذا النصفِ الحضورَ الفعليَّ للحالة الفريدة التي عُني بها هذا المقال، وسيتم تفصيلها بعد قليل. كما ذكرتُ آنفًا، فالنصف الشمالي من العرضيات لا تكثر فيه (أم-إم) الحِمْيَرية كثرتها في النصف الجنوبي من العرضيات أو في تهامة عسير عامة، كما لا يوجد فيه حضور لافت لـ(أل) الموجودة في منطقة الباحة؛ اللهم إلا في الاسم العَلَم، كجبل (الميدر) ووادي (الحفيان) وغيرها.
ولأنه لا (أم-إم) ولا (أل) لها ذلك الحضور اللافت في النصف الشمالي من العرضيات، ولأن هذا النصف يُمثِّل البرزخ بين لهجة -إلى الجنوب- تحضر فيها (أم-إم) ولهجة -إلى الشمال- تحضر فيها (أل)، فيبدو أنه نشأ بسبب هذه البرزخية لهجة جديدة تتمثَّل في (أب) وأحيانًا (إب) التي استُعيض بها عن (أل) التعريف، و(أم-إم) الحِمْيَرية في بعض الكلمات، فترى الناس في النصف الشمالي من العرضيات تنطق بعض الكلمات مصدَّرَةً بـ(أب أو إب) مثل (أبقلم، أبغنم، أبخبل، إبثور، إبكرسي، إبرَجَّال..)، وعلى هذا صار لمحافظة العرضيات لهجتان، واحدة في نصفها الشمالي، وأخرى في نصفها الجنوبي، وهذا ما أكده الدكتور مكين بن حوفان القرني أستاذ اللغويات بكلية العلوم والآداب بقلوة؛ التابعة لجامعة الباحة في محاضرته: (أصول فصيحة لظواهر لهجات محافظة العرضيات)، التي أقامتها اللجنة الثقافية بمحافظة العرضيات التابعة لأدبي جدة قبل سنوات؛ حيث ذكر أشهر ظاهرتَين في محافظة العرضيات، وهما ظاهرة إبدال (أم) بـ(أل) التعريف في القطاع (النصف) الجنوبي من المحافظة، وإبدال (أب) بـ(أل) التعريف في القطاع (النصف) الشمالي من المحافظة. ومما يزيد الأمر غرابة، هو أنه وخاصة في النصف الشمالي من العرضيات، نجد مَن يجعل من بعض الحروف القمرية حروفًا شمسية، فينطق الحرف القمري مشدَّدًا، كحال أهل الشام عندما ينطقون كلمة (الجبل) هكذا (أجَّبل)، وكأن الجيم حرف شمسي، لذلك نجد في النصف الشمالي من العرضيات مَن ينطق كلمة (الوادي) هكذا (أُوَّادي).
أسوق هذا النثار لا لأكرر المكرور ممثلاً في الحضور اللافت لـ(أم-إم) الحِمْيَرية في تهامة الجنوب عامة؛ ومنها العرضيات، وخاصةً نصفها الجنوبي؛ وإنما للقول بأن هناك حالة نادرة جديرة بالملاحظة ربما لم يُلتَفت لها، وتحضر في النصف الشمالي من العرضيات ممثلة في حضور (أب، إب) مصدَّرَةً بها بعض الكلمات في منطوق الأهالي، وخاصة كبار السن، وفي رأيي أن مرد ذلك؛ لكون هذا النصف يقع في المنطقة البرزخية الواقعة بين جهتَين، جهة تحضر فيها (أم-إم) الحِمْيَرية، وجهة تحضر فيها (أل) التعريف، وعلى هذا تولَّدت (أب، إب)، وتبقى هذه الحالة النادرة في حاجة للدراسة والتحليل.