في تلك الليلة الباردة في مستشفى الملك فهد كان الشاب فارس سعيداً لأن والدته المريضة اشتهت حمص وفلافل”، حيث تناولا وجبة العشاء معا..
فارس انحصرت حياته كلها في الطريق بين المستشفى وجامعة الملك عبد العزيز ، حيث يمنح بعض الوقت لجامعته التي يوشك أن يتخرج فيها ، ويمنح معظم الوقت لوالدته التي تستعد لعملية قلب مفتوح..
يعلم فارس أنه تغيب عن محاضراته كثيرا وأنه ينبغي أن يجتاز المستوى الأخير بنجاح، لكنه لايستطيع مفارقة والدته كثيرا، فحالتها لاتسمح بذلك، يغمض عينيه ليتخيل المستقبل القريب عندما تجري والدته العملية ويعود قلبها الحنون ليغمر حياته وحياة إخوته بالحب، وقد تخرج من قسم إدارة الأعمال/ مسار التسويق، وبدأ في ممارسة العمل الذي يحبه، حيث سيقطف ثمرة أحلامه التي تتمايل في خياله البعيد..
لكن خيوط الأمانيالذهبية انقطعت بالشاب العشريني في بداية الطريق، فالعشاء الذي تناوله مع والدته كان هو العشاء الأخير!
أظلمت الدنيا في عيني فارس، وتزلزلت الأرض تحت قدميه، وبدا له أن الدنيا كلها لم يعد لها أي داع، وأن عجلة الأرض قد توقفت ، وأن الحياة- كل الحياة- توقفت قصتها عند هذا الحد..!
انغمس فارس في أحزانه، وغرق في بحر لجي لايسمع فيه سوى صوت أمه ولا يبصر فيه سوى أطيافها الراحلة مع الأمواج..!
مع ذلك فقد تحامل على أحزانه وتوجه لأحد أقاربه ليطلب منه المساعدة لكي يبدأ حياته ، وكان على ثقة كاملة بأنه سيمد له يد العون ،لكن الرد كان صادما:
دبر نفسك .!!
….
ومن بين ركام الأحزان يظهر صديقه الوفي إبراهيم الذي قطع على نفسه عهدا ألا يهدأ له بال حتى يعيد فارس إلى جامعته ، إلى حياته، إلى والده، إلى إخوته الصغار الذين كانوا لا يملكون حولا ولا قوة..
استوعب فارس الصدمة ، استوعب أنه على مشارف التخرج، وأنه المسؤول عن إخوته الذين ينظرون له على أنه خيط النور الرفيع الذي مازال يربطهم بوالدتهم الراحلة..
نجح إبراهيم بإصراره العجيب على انتشال فارس من عزلته، ليدثر قلبه الجريح بالصبر، ويسكب في روحه الشابة قطرات من الأمل والعزم على استكمال الطريق من أجل إخوته الصغار..
عاد فارس للجامعة حيث كان الجميع يعلم بسبب انقطاعه المتكرر عن الجامعة وحظي باحترام وتفهم كبيرين من معظم أساتذته في الجامعة، حتى وصل لدكتور مادة” مالية الشركات” الذي تساءل عن سبب غيابه المتكرر فأخبره فارس بالسبب، ثم مد له بيد مرتجفة بشهادة الوفاة ، فأجابه الدكتور بتعال :
وماذا يهمني أنك ملازم لوالدتك تلك المدة؟!
وماذا يعني إذا كانت أمك قد توفت!!
يهمني أن تحضر محاضراتي واختباراتي فقط ..
- ماذا يعني؟! هل قلت ماذا يعني أن ترحل أمي ؟! ألا تعلم ماذا يعني أن ترحل أمي؟!!
هنا انفجر فارس ، وتدفقت الكلمات من فمه كالسيل لاشيء يستطيع إيقافها أو التخفيف من قوة اندفاعها، وأعماقه الجريحة تتوقد غضبا وحنقا وألما..!!
كانت ردة فعل فارس كافية ليقرر الدكتور أن يحرمه من التخرج هذا الفصل!!
وظن فارس أن هذا العقاب كافيا ، وكافيا جدا ، إذ حرمه فرحة التخرج التي كانت بمثابة الفرحة الأولى له منذ فترة..
لكنه كان متفائلا جدا، فحملها مرة ومرتان وثلاث وأربع !!
في المرة الخامسة ضاقت به الدنيا بما رحبت فتوجه لرئيس القسم بناء على مشورة أحد المعارف في الجامعة وعندما أخبره بالقصة كاملة طلب منه العودة لمنزله قائلا له: لقد انتهت مشكلتك ، يمكنك استلام وثيقتك في أقرب وقت..!!
وهكذا انخرط فارس بعد التخرج مباشرة في العمل في حملات الحج والعمرة ، وماهي إلا أشهر حتى جاءه اتصال من الجامعة نفسها ليعمل فيها وهكذا كان..حيث تمكن من رعاية إخوته ثم الزواج ..
سارت الأمور على مايرام حيث قام بأدواره الكبرى تجاه إخوته حتى قرت عينه بحصولهم جميعا على ما كانوا يطمحون إليه حيث يعمل أكبرهم محامي ، فيما تشغل الأخرى منصب مديرة شؤون الموظفين في أحد الإدارات ، أما أصغرهم( توأم ) فقد احتفل فارس بتخرجهما مهندسين قبل فترة وجيزة..!
وفي كل مرة يحقق فيها هدفا ويقطف أمنية فإنه يسمع صوت ذلك القريب وهو يقول: دبر نفسك..!
وصوته يكاد يخدش ذاكرته ..
..
وبعد كل هذه الأحداث آن الأوان أن يواجه فارس نفسه ويوجه لها سؤالا واضحا:
هل سأعيش في الحياة عابر سبيل بلا أثر، إم أنه يجب أن أضع بصمتي قبل أن أغادر هذا العالم..
من هنا بدأت رحلة التغيير في حياته..
حيث عكف على القراءة وتطوير الذات في مجال التسويق والتجارة التي أحبها منذ الصغر، وبدأ يتذكر كيف حصل على كمبيوتر محمول من والدته- رحمها الله- بعد أن أنجز لها عملا تجاريا،وتراءت له ذكريات طفولته عندما كان يعمل مع والده في متجر لبيع ملابس الأطفال مسجلا للمبيعات في الدفتر وهو لم يتجاوز الثامنة.!
أما عندما كان في الثانية عشرة فقد تدخل بلباقة لإتمام صفقة تجارية بين والده وأحد العملاء كادت أن تفشل بسبب إصرار كلا الطرفين على رأيه، وكافأه والده يومها بتكليفه بإدارة مكتبه..
هذه المواهب المبكرة كان يمكن أن تُدفن وتنتهي للأبد لو استمر فارس على روتينه اليومي، لكنه عاد لإحيائها من جديد عندما استعان به أحدهم لإنقاذ محل الأحذية الذي يمتلكه من الإفلاس، فتدخل فارس ليجعله يكسب خلال ١٥ يوما ٢٠ الف ريال وهو مالم يكسبه منذ وقت طويل..
استغل فارس فترة الحجر ليكثف تواجده على السوشل ميديا حيث بدأ في التعليم والتعلم وافتتح عددا من المشاريع بعضها لازال مستمرا وأصبح نجما ساطعا في عالم التسويق مدعوما من صديقه الآخر هشام الذي ظل يرافقه في أفكاره ويدعم خطواته بلا توقف..مما جعله يتغلب على مشاعر الإحباط والسخرية التي واجهته من بعض الأقارب والمحيطين ومن رفقاء الاستراحة ، حيث تجاهل كل هذه المشاعر السلبية حتى نجح في صناعة اسمه نجما ساطعا في عالم التسويق والتجارة الألكترونية وتمكن من تأسيس وكالة تسويق مكنته حيث سكب فيها مواهبه ولبى عن طريقها نداء شغفه...
وأخيرا نجح فارس في امتلاك منزل في الرياض كما كان يحلم،حيث ضمه مع شريكة عمره التي أرسلها الله سبحانه له لتربت بيدها الحانية على كتفه المثقلة بالمسؤوليات، ولتتولى إضاءة سراج روحه الصغيركلما خفت نوره من ريح مفاجئة، أو أطفأته عاصفة مدوية..لتكون العظيمة التي ترفأ جراح الفارس ، وتدعوه لامتطاء صهوة أحلامه مرة تلو الأخرى..!
..
وأخيرا فقد دوت جنبات منزل فارس الجديد بضحكات طفلته “ منيرة” التي أسماها على اسم والدته الراحلة، حيث يأمل أن يكون اسمه فخرا لها ، ترتديه بين أقرانها عزا وتيها، تماما كما أنها هي واسمها قبس وهاج من السعادة لروحه وقلبه!