دخلت طالبة المرحلة الثانوية إلى المصلى لأداء صلاة الضحى وعندما أوشكت على الانتهاء من الصلاة انهمرت دموعها البريئة لتبلل مريولها السماوي، أو تبلل قلبها الصغير ..
هنا ربت كف حنون على كتفها..وبدأ صوت دافئ يسكب في روحها العطشى قطرات من نور:
ابنتي “ مجد “ هيا بنا إلى الصبر!
اتسعت عينا مجد وواصلت أبلة فوزية حديثها المريح:
هناك من لايصبر حتى على الطاعة فما بالك بمن يصبر على الابتلاء..وبدأ قلب مجد يبتسم:
“ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب”
تداعت أمام عينيها صور متتالية لماض بعيد تناثرت فيه طفولتها على صخرة صدمة عاطفية عانت منها طويلا وظلت تطاردها كشبح مرعب ، وأغرقتها في بحر من الكآبة والخوف..
قبل أن تقرر أن تستجيب لمحاولات أهلها الدائمة لإخراجها من هذا النفق، فرمت اللا مبالاة بالدراسة خلف ظهرها، وقررت أن ترد الجميل لعائلتها التي مافتئت تدعمها وتشد من أزرها..
لكن ضغطها المتزايد على نفسها المنهكة من الداخل جعلها تنهار تماما لتذهب في غيبوبة قصيرة تستفيق منها على خبر إصابتها بالصرع!!
وبدأت رحلة جديدة مؤلمة من المعاناة والعلاج وسط صدمة الوالدين وحزن الإخوة..
وفي كل مرة تتعرض فيه لموقف مؤلم تتضاعف الجرعة وتتضاعف الآلام..!!
ولكنها في كل مرة تخور فيها قواها تنظر مليا للسماء وصوتها الضعيف يردد:
رب لاتحملني مالا طاقة لي به، رب لاتحملين مالا طاقة لي به..
وإذا كانت معلمتها فوزية قد قامت بدور المربي والمعلم في دعم طالبتها فإن معلمة أخرى تركت في قلبها المتعب ندوبا من الوجع عندما طردتها من الفصل في بداية نوبة من نوبات الصرع بدعوى الحفاظ على انضباط الفصل..!! مما جعلها تضطر للعلاج النفسي لتتعافى من تلك الصدمة..
ومع ذلك نجحت مجد في الحصول على معدل رائع في الشهادة الثانوية لتبدأ رحلتها في الجامعة..
استعانت مجد بالصبر والصلاة وتسلحت بالدعاء لتواجه آلام الروح والجسد، مصممة على استكمال رحلة تفوقها ورحلة علاجها معا..
وهنا ظهرت يد أخرى حنون ربتت على آلام مجد ومعاناتها..
إنها يد الصديقة “ فدوى “ التي رأت في صديقتها الصابرة طيفا من الجمال يغمر ردهات الجامعة بالألق كل يوم..بينما كانت فدوى بلسم يطيب جراح مجد ويمسح عليها بلطف وحب..
حققت مجد مجددا معدلا رائعا وتخرجت بمرتبة الشرف في الجامعة وكأنها تهدي كل ذلك شكرا لوالديها لأسرتها لمعلمتها ولصديقتها..ولنفسها ..
نفسها التي تعالت على أمواج آلامها وتسامت على ظلماتها المتراكمة في أعماقها المضطربة، حتى اجتازت جميع مراحلها الدراسية بنجاح تام..
لكن بقي أن تواجه مرحلة مابعد الجامعة مع استمرار مواجهة مرضها الجسدي والنفسي معا..
بحثت عن عمل لترمم تلك الفراغات التي تزيد تعبها تعبا، لكنها لم تفلح في ذلك ولم تنجح في مشاريعها المختلفة التي بدأتها ثم أخفقت في إكمالها، وبدا أنها ستدخل نفقا جديدا مظلما لكنها عادت لتتماسك مستعينة مرة اخرى بالصبر والصلاة .. والدعاء.
فكرت مجد أن تبحر في أعماقها التي تموج بالصراعات والحزن والاكتئاب والذكريات الموجعة منذ سنوات مضت، لاشك أن هناك أيضا موجة من الشغف وموجة من الموهبة وموجة من الحب..
وجدت نفسها أخيرا في مجال التسويق وتقديم الخدمات..
وأنكبت على الكتب تلتهمها والحسابات المفيدة تغوص فيها وراح قلمها يصوغ الفوائد والفرائد ليقدمها لمن يحتاجها بكل سعادة ورضى..
فيسر الله لها العسير، حيث تدير اليوم مشروعين يكفلان لها دخلا كافيا وفي طريقها لإنجاز المشروع الثالث..
والأهم من ذلك أنها تشعر بسعادة متناهية وهي تدير مشاريعها ، وما أن تستعيد ذاكرتها شريط الماضي المؤلم حتى يلقي قلبها نظرة على واقعها الذي صنعته بطريقتها فيعود ليبتسم من جديد..!
مجد احتفلت مؤخرا مع أسرتها بعد أن قللت جرعة الصرع - لأول مرة منذ إصابتها به- وانتظمت على العلاج النفسي حتى بدأت شمسها البعيدة تقترب رويدا رويدا لتغمر قلبها الصغير بالدفء وقلوب متابعيها ومحبيها بالبهجة والامتنان...!!