تأتي خطبة منبر الجمعة بوصفها خطابًا صوتيًّا مباشرًا ينطلق من الخطيب صوب صفوف الحضور المتراصة أمامه ليقع منها مواقع متباينة بحسب فهم المتلقي ووعيه واستيعابه وإدراكه لمضامين الخطبة ودلالاتها، الأمر اللافت للنظر في خطبة الجمعة في الآونة الأخيرة أنها نَحَت منحًى مغايرًا -في كثير من تفاصيلها- عن ما كانت عليه حتى وقت قريب؛ فمن تلك الأمور اللافتة للنظر تحوُّل مضامينها وتحديثها -لتساير بعض الأحداث الحاصلة في حياة الناس ومعاشهم- وتنوعها وخروجها عن الأنماط المألوفة والموضوعات المستهلَكة، ومن تلك الأمور أيضًا ميل الخطبة إلى موضوعات لا تضرب على أوتار التجييش والشحن والإثارة لدى المتلقي، ومن ذلك أيضًا تركيزها على الموضوعات التي تتعلق باهتمامات المتلقي وتساير حركة الزمن ومتطلبات العصر وعلومه ومنتجاته وربطها بحياة المسلم وبيان كيفية التعامل معها والإفادة منها، ومن ذلك أيضًا التطرق لقضايا عقلية إشكالية ومناقشتها وفق منهج الإقناع والحجة والدليل، ومن ذلك الالتفات للواقع المعيش بكل تفاصيله ومتغيراته ومستجداته وتجسير الفجوة بينه وبين ثوابت الإيمان، ومن ذلك التعريج على بلاغة القرآن وفرائده وعلى ما تضمَّنه من حقائق يغفل عنها البعض، ولا يعني هذا إغفال أو إهمال المسلمات الدينية والأركان الثابتة، بل ينبغي تعهدها والتأكيد عليها من حين لآخر، من الأمور اللافتة للنظر كذلك ظهور بعض التغييرات على هيئة الخطيب ومظهره العام؛ فأصبحنا نرى خطيبًا وقد وضع عقالاً على رأسه، وآخر لا يلبس مشلحًا، وثالثًا أعاد طرفَيْ غترته أو شماغه على ظهره أو خالف بينهما على رأسه ولم يلتزم بإسبالهما وفق الطريقة المعتادة، ومهما يكن فلبس العقال أو المشلح أو نزعهما وإسبال الغترة أو كفها كلها من المباحات في كل الأحوال والهيئات، ومن الأمور اللافتة للنظر كذلك طريقة إلقاء الخطيب؛ فقد كانت تسير على نمط شبه موحَّد يتسم برفع الصوت والسرعة في الإلقاء والغلظة في النبرة، وهذا نهج نبوي لا يُصادَر، لكنه صلى الله عليه وسلم لم ينتهجه في كل الأحوال؛ فربما يصلح في مواضع من الخطبة أو لخطبة معينة، ولذا أصبحنا اليوم نرى خطباء يُنوِّعون في أدائهم ويُكيِّفون أصواتهم بحسب ما تقتضيه مضامين الخطبة.
من الأمور الجيدة التي وعاها بعض الخطباء أخيرًا هي عدم الإطالة في الخطبة بحيث تستغرق وقتًا طويلاً حتى يُنسي آخرُها أولَها؛ فنراهم مالوا للاختصار وعدم الإطالة، يضاف إلى ذلك أن البعض من الخطباء نزع من رأسه فكرة التأخر عن صعود المنبر بحجة تكامل الحضور لتعم الفائدة، لذلك نراهم يصعدون المنبر وقت أذان الظهر تمامًا وقد يتقدمون بدقيقة وقد يتأخرون بمثلها أو قريبًا منها، لكن الشاهد أنهم لم تعد تعنيهم مسألة التأخر عن الصعود؛ طمعًا في كثرة الحضور، من الأمور اللافتة أيضًا هو استجابة الخطباء وامتثالهم لتوجيهات الوزارة بتخصيصهم موضوعات بعض الخطب لقضايا ارتأتها الوزارة تساهم في تصحيح العقيدة أو تشدد على تماسك اللحمة الوطنية وتؤكد على دعائم الأمن والاستقرار، كثيرة هي التغييرات التي طرأت على خُطب المنبر وخطبائه وأصبحت لافتة للنظر فكانت بمثابة (الفرمتة) التي تعيد الصياغة وتشتغل على قضية التسهيل والتجديد والتطوير والمسايرة، وهذه لم تشكل -حتى الآن- ظاهرة، لكنها لافتة للنظر وفي نمو متصاعد، ويبقى المأمول من وزارة الشؤون الإسلامية ألا تعهد بالخطبة إلا لمَن يجيد صياغتها (بنفسه) وليس بتصويرها من الخطب الجاهزة، وليكن ذلك وفق اختبار صريح تجريه الوزارة على الخطيب مباشرة في الإدارة التي يتبعها، فالصحف مثلاً لا تقبل -إطلاقًا- بكاتب يأتي بمقالاته منسوخة من كاتب آخر أو من أي مطبوعة، وخطبة الجمعة أولى بهذا الحرص والتشديد؛ عطفًا على قداستها وأهميتها، كذلك ليت الوزارة تلتفت إلى إجادة الخطيب لقواعد اللغة وفنون الإلقاء وتشدد عليها، مسألة أخيرة مرجو من الوزارة أن تلتفت إليها وهي أن في المجتمع تيارات وأحزابًا ومتغيرات ونوازل جديرة بتخصيص خطب عنها بأمر الوزارة نفسها وتحت نظرها ووفق ما تراه يحقق المصلحة.