في الحياة الدنيا سُنَنٌ لا تتبدَّل ولا تتحوَّل، ولهذا فإنَّ للدنيا أحكامًا تُخالِف أحكام الآخرة، وللآخرة أحكامًا تُخالِف أحكام الدنيا، ويرد الخطأ في أذهان بعض الناس حينما تُلْبَس الآخرة رداء الدنيا، فشتان ما بينهما ولا سيان!
ومن أهم الأحكام التي تُخالف فيها الدنيا الآخرة أن الله جعلها دار عمل، وجعل الآخرة دار جزاء؛ قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وقال تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
والمتأمِّل في أسماء الله تعالى سيلحظ بأنَّ من أسمائه المانع المُعطي، فإنه -عز وجل- قد كافأ عباده على عمل الخير، سواء كان العامل مؤمنًا أو كافرًا، فأما المؤمن فيجد نصيب ما عمل من خير في الدنيا والآخرة أو يدَّخر له الثواب في الآخرة كما دلت النصوص الشرعية على ذلك، وأما الكافر فإن الله تعالى يُعجِّل له الثواب في الدنيا -إنْ أحسن في الدنيا-؛ فعن عَديِّ بن حاتم قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبي كان يَصِلُ الرَّحم ويفعل ويفعل؛ فهل له في ذلك -يعني: من أجر-؟ قال: «إن أباك طلب شيئًا فأصابه»، رواه الإمام أحمد، وحسَّنه الشيخ شعيب الأرناؤط.
والشيء الذي طلبه حاتم الطائي وأعطاه الله تعالى إياه هو الذِّكْرُ الحَسَن، كما جاء ذلك مُصرَّحًا به في رواية أخرى.
فالإحسان يُقابَل بالإحسان؛ قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}، والإساءة تُقابل بمثلها؛ قال تعالى: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها}، ويعفو ربُّنا عن كثير.
ومكافأة الله تعالى لعبده على حُسْن عمله لثلاثة أمور:
?الأمر الأول: تفضّلٌ منه -سبحانه وتعالى- على عبده، والله ذو الفضل العظيم.
?الأمر الثاني: لِيقطع على كُلِّ عاملٍ سبيل المنَّة؛ فتكون المنَّة لله تعالى، والفضل له سبحانه وحده.
?الأمر الثالث: لِيستحِثَّ أولي الخير على فعل الخيرات، وتنشطَ هممهم إلى قطف ثمار الإحسان اليانعات، وبهذا تكون الحياة الدنيا رياضًا من الخير يتنافس الناسُ -مؤمنهم وكافرهم- على غرس أشجار البِرِّ فيها، إذْ لو اقتصر الثواب في ”الدنيا“ على مَنْ آمَن بالله وحسب، لَـمَا صنع كافرٌ خيرًا؛ فلله تعالى الحكمة البالغة.
وأخْذ الله وعطاؤه لا يماثِل أخْذ المخلوق وعطاءه؛ فعطاؤه -سبحانه وتعالى- هو الأكمل والأتم؛ إذْ إنه يأخذ من المخلوق لا لينتفع به -سبحانه وتعالى- بل لينتفع به المخلوق، ثم يُجازى الجزاء الأوفى، فإن الحسنة بعشر أمثالها، على أنَّ ما أخذه الخالق من المخلوق هو ملْك للخالق؛ وقد تفضَّل الله تعالى على خلقه بأنْ ملَّكهم بعض ما أودعه في الأرض؛ قال تعالى: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}، وأشار القرطبي في تفسيره إلى أنَّ في الآية دلالة صريحة على أنَّ أصل الملك لله سبحانه، وأن المخلوق ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله، فيثيبه على ذلك بالجنة.
ولهذا اسْتُحِبَّ لمن أصيب بمصيبة أن يقول ما نَدَبَ إلى قوله النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجل مسمَّى».
ولمَّـا كان من أهم نواميس الحياة الدنيوية أن يعمل المخلوق فيها بالخير ليُثاب، وأصبح هذا أصْلاً وفصْلاً في معاملات الخَلْق بعضهم بعضا؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «مَن صَنَعَ إِليكُم مَعرُوفًا فَكَافِئُوه، فَإِن لَم تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوا بِهِ فَادعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوا أَنَّكُم قَد كَافَأتُمُوهُ»، رواه أبو داود وصحَّحه الألباني.
فتحصَّل من هذا أن الشريعة الإسلامية تحث الإنسان على أن لا يكون سلبيًّا أمام عطاء غيره له، فإنَّ بعض المطففين في ميزان الأخذ والإعطاء يرى العطاءات تنثال إليه وتنهال، ويده مغلولة عن البذل، مشلولة بالبخل!
ولما سبق ذِكره، وتمَّ بسْطه ونشْره، تبين لذوي الحجى أن الحياة قائمةٌ على ميزان الأخذ والعطاء، فلا تخلو في شتى صُوَرِها منهما؛ فإنهما ضرورة لكُلِّ مخلوقٍ، ولا يخلو مخلوق عن حاجته إلى أخيه، فإنَّ (الإنسان مدنيٌّ بطبعه) -كما قاله ابن خلدون-.
☀️ ومن ظنَّ أن الحياة قائمة على ساق الأخذ دون الإعطاء، فإنه لم يفقه سرَّ وجوده، ولم يتفطن إلى طبيعة تكوينه، ولكي يُجلِّي اللهُ ضعف المخلوق أناط بعض حوائجه بغيره من الخَلق، بل قد تُناط حاجة الكريم لدى المهين، والعزيز لدى الذليل؛ ليستبين لدى كُلِّ ذي لُبٍّ ضعفه؛ وخُلِق الإنسان ضعيفًا، وأكمل الناس من علَّق قلبه عند قضاء حاجته بالله تعالى.
وقد يتبادر إلى ذهن بعض من لم يُرزق السياحة في فيافي الحياة، والغوص في محيط حكمة الوجود بها، أن مفهوم الأخذ والإعطاء لا يتسع بساطه، ولا يمتد سماطه، إلا في أمرٍ ماديٍّ (محسوس)، وهذا الزَّلل يُصاب به من كان أعمش الفؤاد، يعمى بصره عمَّا يجول، وتصمُّ أُذناه لما يدبُّ من حوله ويصول، من أشياء لا تُرى لكننا نشعر بها في قلوبنا، وأعني هنا ”المشاعر الوجدانية“ ؛ إذْ إنَّ كثيرًا من الناس لا يُدرك أن يد الأخذ والإعطاء تمتد إليها، أو قد يغفل عن ذلك.
والقلوب جُبِلت على أن من أحبَّها أحبَّته، ومن لان لها لانت له، ومن رَحِمها رَحِمَتْهُ، وكما قال الشاعر:
أَحْسِنْ إلى الناس تستعبد قلوبَهُم *
فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
إن الله تعالى لم يخلق هذا الكون لِنقف أمام عطائه سبحانه وتعالى جامدين خامدين، لا نتفاعل معه نبضًا وحركةً.
واللبيب من تقبَّل هذا العطاء ”الربَّاني“ بقَبول حَسَنٍ؛ فنَبَضَ ” قلبُه“ في الكون تدبُّرًا وشُكرًا، وتحرَّك ”جسدُه“ في الأرض بناءًا وفكرًا.
✒️أحمد بن علي الحذيفي العامري