ها هي أيام الحج شمسُـها تكاد تُشرِق علينا نهارًا، وليالي شهر ذي القَعدة عنَّا تحتجبُ وتتوارى، ونَفْحةُ الحجِّ تُظلِّلنا غيمته، وإلى مسالك قلوبنا تنسابُ نسْمتُه.
وبساط ذي القَعدة يُطوى، وأحاديث الحجِّ وفضائله وأيامه على الألسن تُروى، فالقلوب لعناقه قد تاقت، والعيون لإبصار منازله اشتاقت.
وقِسْتُ إلى ثراها كُلَّ أرضٍ *
فكانت كالحقيقة في المجازِ
ليالٍ وأيام، وينزل إلى ساحة قلوبنا أحدُ أشهر الله الحرام، شهرٌ تُحَلِّقُ فوق صعيده طيورُ المحبة والوِئام، وتنقشع عن سمائه غيومُ العَتْب والمَلام، وتنبعث من فِجاجه دعواتُ المتضرِّعين إلى الله بأن يغفر لهم الزَّلل والآثام.
إن الحديث عن الحجِّ وأيامه، وفضائله وأحكامه، ذِكْرُه يطول، فكلماته ماتزال في دروب القلب تجول وتصول، فَلْنضْرب الذِّكر عنه صفحًا، لا مُسْتخفِّين بأهمية الحديث عنه -كـلا-، بل إننا عاقدون العَزْمَ على الحديث عنه في مقالٍ آخر، نجمْعُ ما قيل فيه وننظمُ ما مِن عقده تناثر.
وفي هذا المقال المُعْتَصَر، أهدي القُرَّاء وصايا مُضمخةً بالمسك والعنبر.
لقد أتتْ إلينا وفود الحُجَّاج، من البَرِّ والبحر وعَسير الفِجاج، قد أجابوا نداء ربِّ العالمين، تاركين خلفهم المال والبنين، قاصدين رِضوان الله وله آمِّين، لَبِسوا لباس الإخلاص لإقامة الشَّعائر، وقد عقدوا على أجسادهم إزار التوبة ورداء الأوبة لاطِّراح ما اقترفوه من الصغائر والكبائر، فما أجمل أرديتهم النَّاصعة، وأزكى قلوبهم التي هي بلون الإيمان فاقعة.
وعليه فإنه يَحْسُن بنا أن نُنْزِلهم أكرم المنازل، ونُحلِّيهم من حُلَل الفضائل؛ فإنه لا أكرم ضيفًا، ولا أرقُّ نسمةً وطيفًا، من حُجَّاج بيت الله الحرام.
ولـمَّا كان الأمر كذلك، كان لِزامًا عليَّ أن أصِفَ للقارئ سبيلاً إلى استقبال الحاجِّ يشتمل على أيسر المسالك، وقد ضَمَّنْتُ قولي بعض الوصايا المُحلاَّة من الذهب بالسبائك، فها أنا إليكم أنشرها، ومن أزهار القلب على الأوراق أنثرها:
?الوصية الأولى:
علينا أن نَسلك في معاملة الحاجِّ طرائق الخير واليُسْر، ونتجنَّب مضايق الضيق والعُسْر، وأن نسدي إليه البِرَّ والإحسان، ونرفع عنه ما يجثو على صدره من ألم المشقة والحرمان؛ قال تعالى: {وقولوا للناس حُسْنًا}، وإكرام وِفادته على أولي النُّهى واجب، والجود بما يُستطاع في رِفادته أمرٌ لازِب.
?الوصية الثانية:
علينا أن نرشد الضالَّ منهم فلا يبرح حتى يبلغ مكانه، ولا نألوا جهدًا في إيصاله إلى مبتغاه فيهدأ جنانه، ونؤانسه في الحديث، ونزيل عن ظهره عناء السير الحثيث.
?الوصية الثالثة:
أن نتحلَّى بالصبر والحِلْم، فلا يرى حاجٌّ منَّا مايزيد من داء وحشته، فيشعر -بعد ذلك- بأنين غُربته.
?الوصية الرابعة:
أن نُعلِّم الجاهل، ونُجيب عن سؤال السائل؛ فإنَّ الحاجَّ قد يُشكل عليه كيفية أداء مناسكه.
وهذه الوصية خاصةٌ بالعلماء وطلبة العلم والدعاة؛ قال تعالى: {فاسألوا أهل الذِّكر إن كنتم لا تعلمون}، وقال صلى الله عليه وسلم: «أَلا سألوا إذْ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العِيِّ السؤال»، رواه أبو داود وغيره.
?الوصية الخامسة:
بَذْل المعونة لهم فيما ينوبهم، وتيسير ما تعسَّر من شؤون أمورهم؛ قالت خديجة -رضي الله عنها- للرسول صلى الله عليه وسلم: «إنك لتَصِلُ الرَّحم، وتَحمل الكَلّ، وتَكسبُ المعدوم، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحقِّ»، رواه البخاري.
وأفضلُ الناس ما بين الورى رجلٌ *
تُقضى على يده للناس حاجاتُ
?الوصية السادسة:
علينا أن نُنْزل الحُجَّاج في قلوبنا منازل الرَّحمة، ونُصافحهم بأكفِّ الحكمة، فلا نتخذ الفظاظة وِطاءًا، ولا الجفاء كِساءًا؛ قال تعالى: {ومَنْ يُؤتى الحكمة فقد أُوتي خيرًا كثيرًا}، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
______________________________
✒️ أحمد بن علي الحذيفي العامري
المدرس بدار الحديث المكية