كان من أولئك الرجال الذين إذا مرّوا في الحياة، تركوا خلفهم أثراً لا يُمحى، وذكراً لا يُنسى؛ لم يكن مجرد اسمٍ في سجلات القادة، بل كان روحاً في جسد الحركة الكشفية، ونبراساً أنار دروبها حين خفتت مصابيح كثيرة.
ذلك هو عبدالله عمر نصيف – رحمه الله – الرجل الذي حمل رسالة الكشافة لا بوصفها نشاطاً شبابياً، بل مشروعاً إنسانياً يبني الإنسان قبل أن يبني المعسكرات.
وُلد في بيتٍ عرف العلمَ والسيادة، فكان العلم لغته الأولى، والخلق زاده الدائم؛ تربى على أن خدمة الناس عبادة، وأن الكلمة الطيبة قد تُنقذ روحاً كما تُنقذ اليدُ جسداً، وحين دخل إلى عالم الكشافة، لم يدخل بصفته مسؤولاً أو راعياً فحسب، بل كفيلسوفٍ رأى في الحركة الكشفية مدرسةً تُخرج مواطنين للعالم كله، لا للوطن وحده.
في اجتماعاته ومخيماته، كان القادة يرونه أباً قبل أن يكون مسؤولاً، ورفيقاً قبل أن يكون رئيساً، يجلس إلى الفتية في معسكراتهم، يسمعهم أكثر مما يتحدث، يبتسم إذا أخطأوا، ويثني إذا أحسنوا، مؤمناً أن التربية الحقيقية لا تُلقى في قاعاتٍ مغلقة، بل تُصنع تحت خيمةٍ يرفرف فوقها علم الوطن، وتُغرس حول نارٍ تجمع القلوب على هدفٍ واحد.
لم يكن الدكتور نصيف يتحدث عن الكشافة كترفيهٍ أو هواية، بل كقوةٍ ناعمة تبني الجسور بين الشعوب؛ لذلك كان حضوره في المحافل الكشفية العالمية حضوراً مهيباً، صوتاً سعودياً يُسمع باحترام، ورؤيةً عربيةً يُؤخذ بها تقديراً
كان العالم ينصت له حين يتحدث عن روح الكشفية، وعن دورها في الحوار والسلام وخدمة الإنسان أياً كان لونه أو دينه؛ وكثيراً ما كانت كلماته تُعيد التوازن إلى نقاشاتٍ كادت تنزلق إلى الخلاف، لأنه كان يُخاطب القلوب قبل العقول.
لم يكن يحب الأضواء، لكنه كان هو الضوء.
كان يحمل في جيبه بطاقات الفتية وأسماء المحتاجين، وفي قلبه خيمةٌ تسع الجميع؛ ظل طوال حياته يرى في الكشافة صورة الإنسان الفطري الذي يجمع بين الفكر والعمل، وبين الطاعة والطموح، وبين الانضباط والحرية.
ولذا كان فقده فاجعةً لا تخص الوطن وحده، بل ألماً عالمياً امتد إلى كل جمعية كشفية عرفته أو تأثرت به أو اقتبست من نُبله وهدوئه منهجاً
لقد رحل القائد الذي آمن أن الشارة على الكتف لا تزن شيئاً إن لم تكن الأخلاق تاجاً على الرأس.
ورحل من كان يرى أن كل فتى في الخلاء مشروعُ قائدٍ في الحياة، وأن كل معسكرٍ فرصة لبناء رجلٍ يعرف الله ويحب وطنه ويخدم إنسانه.
نم قرير العين يا أبا عمر، فالكشافة التي أحببتها لا تزال تسير على خطاك، والوعد الذي قطعته بأن تكون الحركة الكشفية جسراً للسلام باقٍ في قلوبٍ تعلمت منك أن خدمة الآخرين هي أسمى وسام.
لقد غبت جسداً، لكن حضورك سيبقى يخيم على خيام الكشافة، في كل تحية علمٍ، وفي كل يدٍ تُمدّ للخير، وفي كل فتى يسير في الخلاء وفي قلبه نور.
سلامٌ عليك أيها القائد الإنسان، وسلامٌ على سيرةٍ ستبقى منارةً لكل من آمن أن الكشفية ليست نشاطاً… بل رسالة.
مبارك بن عوض الدوسري
@mawdd3