الكلّ يعلم أن السعيَ بين الصفا والمروة واجبٌ على جميع الحجاج والمعتمرين؛ إذ هو ركن من أركان الحج والعمرة، يؤديه الحاج والمعتمر بعد الطواف بالكعبة المشرفة، علمًا بأن الحاج يؤدّيه سواء أكان متمتعًا، أوقارنًا، أو مفردًا، لكن في حق المتمتع يلزمه سعي ثان للحج؛ إذ إن سعيه الأول يكون للعمرة، أما القارن والمفرد فليس عليه إلا سعي واحد، إن سعاه قبل يوم عرفة مع طواف القدوم، أجزأه، وإلا سعاه مع طواف الإفاضة، بعد يوم عرفة.
ولمشروعية السعي أصل واقتداء، وتاريخ مع النبي إبراهيم وزوجته هاجر وابنه إسماعيل عليهم السلام، فما هو السعي وما صفته؟ وما معنى الصفا والمروة؟ وماهيتهما وموقعهما؟ وما سبب تسميتهما؟ وما معنى المسعى والعلمان الأخضران؟.
وما سبب اختلاف المؤرخين في طول وعرض المسعى؟.. كل هذا وغيره من التساؤلات تجيب عليها “سبق” في هذا التقرير.
أصل السعي.. وعلاقته بإبراهيم وإسماعيل وهاجر
يعود أول ذكر للسعي بين الصفا والمروة إلى النبي إبراهيم وابنه إسماعيل وزوجته هاجر عليهم الصلاة والسلام؛ فقد روى البخاري عن عبد الله بن عباس قال: “أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقًا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه، فقال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ حتى بلغ يَشْكُرُونَ. وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوّى، أو قال: يتلبط. فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى إذا جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك سعي الناس بينهما”.
الصفا والمروة.. عند قريش والعرب وموقف الإسلام منها
كان على جبلي الصفا والمروة صنمان: إساف، ونائلة، وكان الجاهليون يمسحونهما، وكان طوافهم بهما سبعة أشواط، وكانت تقوم بذلك قريش فقط، أما غيرهم من العرب فلا يطوفون بهما. وكانت الصفا والمروة من المواضع التي كان لها أثر كبير في عبادة أهل مكة.
ولما قدم الأنصار مع النبي عليه الصلاة والسلام في الحج، كرهوا الطواف بين الصفا والمروة؛ لأنهما كانا من مشاعر قريش في الجاهلية، وأرادوا تركه في الإسلام، ومما ورد أن بعض الصحابة قالوا: يا رسول الله، لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه شرك كنا نصنعه في الجاهلية”؛ “إذ كان أهل الجاهلية إذا طافوا بين الصفا والمروة مسحوا الوثَنَين، فلما جاء الإسلام وكُسرت الأصنام، كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين”، فأنزل الله: “إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ”.
الصفا والمروة.. ماهيتهما وموقعهما
الصفا جبل صغير يقع أسفل جبل أبي قبيس من الجهة الجنوبية الشرقية من الكعبة، ويبعد عنها نحو 130 مترًا، وهو مبتدأ السعي. أما المروة فهو أيضًا جبل صغير من الحجر الأبيض، يقع في الجهة الشمالية الشرقية من الكعبة، ويبعد عنها 300 متر، وهو متصل بجبل قعيقعان، وإليه ينتهي السعي. وكان الصفا والمروة أكمة وسط مكة، تحيط بها بيوت أهل مكة والتي منها دار الأرقم ودار السائب بن أبي السائب العائذي وغيرهما.
وكان الصفا والمروة والمسعى يقعان خارج المسجد الحرام، ولم يكن لهما بناء يخصّهما، وظلّ الحال على ما هو عليه حتى عام 1375هـ؛ حيث قطع جبل الصفا للفصل عن جبل أبي قبيس، وأبقي على بعض الصخرات في نهايته علامة على موضع المشعر، وكذلك فعل بالنسبة لجبل المروة، وتمّ لأول مرة بناء المسعى، وضُمَّ للمسجد الحرام وأصبح جزءًا منه.
سبب التسمية
سميت الأكمة أو الجبل بالصفا جمع صفاة؛ لأن الصفا والصفوان والصفواء هو الحجر العريض الأملس، أو الصخرة الملساء القوية المختلطة بالحصى والرمل. قال الأزهري: الصفا والمروة جبلان بين بطحاء مكة والمسجد”، وقال ابن الأثير: الصفا أحد جبلي المسعى”.
كما سميت المروة، مفرد المرو، لأجل الحجارة البيض، الصلبة البراقة الموجودة فيها، أو لأجل الصخر القوي المتعرج، وهو الأبيض الصلب. قال الفيروزآبادي: “المروة حجارة بيض براقة، وهو جبل بمكة يذكر مع الصفا، وقد ذكرهما الله تعالى في كتابه العزيز”. وقال الزبيدي: “قال الأصمعي: سمي ويقصد جبل المروة بذلك لكون حجارته بيضاء براقة”. وقال الفيومي: “المروة الحجارة البيض، والواحدة مروة، وسمي بالواحدة الجبل المعروف بمكة”، قال الآلوسي: “المروة جبل بمكة يعطف على الصفا يميل إلى الحمرة”، وقال الحموي: “الصفا والمروة جبلان بين بطحاء مكة والمسجد الحرام”. وذكر محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره “التحرير والتنوير”: الصفا والمروة اسم لجبلين صغيرين متقابلين، فأما الصفا فرأس نهاية جبل أبي قبيس، وأما المروة فرأس منتهى جبل قُعَيقِعَان، وسمي الصفا لأن حجارته من الصفا وهو الحجر الأملس الصلب، وسمي المروة مروة لأن حجارتها من المرو، وهي الحجارة البيضاء اللينة التي توري النار”، أي تشعل النار.
صفة نسك السعي بين الصفا والمروة
إذا أراد الحاج أو المعتمر السعي يتوجب عليهما البدء من الصفا ويستحب أن يقرأ: “إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ”، ثم يرقى على الصفا، ويسنّ أن يستقبل الكعبة ويرفع يديه ويحمدَ الله ويدعو بما شاء أن يدعو، وكان النبي يدعو في هذا الموضع: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده”، وكان يكررها ثلاث مرات ويدعو بعدها. ثم ينزل من الصفا إلى المروة ماشيًا حتى يصل إلى العمود الأخضر “الإنارة الخضراء”، فإذا وصله أسرع إسراعًا شديدًا بقدر ما يستطيع إن تيسّر له بلا أذية أحد، حتى يصل العمود الأخضر الثاني، ثم يمشي على عادته حتى يصل المروة، فيرقى عليها ويستقبل القبلة، ويرفع يديه ويقول ما قاله على الصفا. ثم ينزل من المروة إلى الصفا يمشي في موضع مشيه، ويسرع في موضع العلمين، فيصعد على الصفا ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويقول مثل ما قال أول مرة، يكرر هذا سبعة أشواط يبدأ من الصفا وينتهي في المروة، والصعود على جبلي الصفا والمروة، والركض الشديد بين العلمين الأخضرين؛ كلها سنة وليست بواجبة.
ولا يشرع التنفل بالسعي بين الصفا والمروة، وإنما هو مشروع للحاج أو المعتمر مرة واحدة، ولم يسعَ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بعد طواف نفل أبدًا، وإنما سعى في عمرته بعد طواف العمرة، وفي حجّته بعد طواف القدوم على قول من قال إنه كان مفردًا، كما سعى بعد طواف الإفاضة.
السعي.. والمسعى
السعي في اللغة من سعى يسعى سعيًا، أي عدا، وسعى في مشيه أي هرول، والسعي في الشرع هو قطع المسافة الكائنة بين الصفا والمروة سبع مرات ذهابًا وإيابًا بعد طواف نسك حج أو عمرة، أما المسعى فهو الطريق الذي يقع فيه المسعى، قال المباركفوري: المسعى مكان السعي، وهو بطن الوادي.
العلمان والسعي الشديد بينهما
يستحبّ للساعي بين الصفا والمروة، السعي الشديد بين العلمين. والعلمان، وتسمى الميلان، مثنى علم وهو العلامة، وهما الميلان الأخضران اللذان يقعان في فناء المسجد الحرام. قال تقي الدين الفاسي: “الميلان الأخضران اللذان يهرول الساعي بينهما في سعيه بين الصفا والمروة..”.
ووضع العلم الأخضر تم في أواخر القرن الأول الهجري؛ حيث كان الناس في صدر الإسلام يعرفون موضع هرولة النبي والصحابة من بعده، فلما ماتوا رأوا أن يضعوا موضعها علامة للدلالة عليها؛ حتى لا يحدث اختلاف، فوضعوا العلمين الأخضرين.
وكلما تمّ تجديد وتوسعة في المسجد الحرام نقلوا العلم الأخضر من موضعه الأصلي إلى ما يقابله تمامًا في التوسعة المستحدثة، قال محمد الكردي: “هُدم أحد العلمين الأخضرين في سنة 1375هـ، وهدم العلم الثاني في السنة التي بعدها، وذلك بسبب توسعة المسجد الحرام، ثم أعادوا وضع العلمين من جديد للغرض المذكور، فوضعوه بالمحلّ الأصلي الذي كان فيه”.
وفي التوسعات الأخيرة للمسعى تم استبدال العلمين بمصابيح إنارة، باللون الأخضر؛ لتُرى واضحة وتُرى من بعيد.
ولعلّ الحكمة من السعي الشديد بين العلمين، هو الاقتداء بهاجر زوجة إبراهيم الخليل، الذي كان فعلها أصل مشروعية السعي؛ ففي صحيح البخاري عند الحديث عن سعي هاجر بين الصفا والمروة قال: “..حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات..” قال ابن عباس: “قال النبي صلى الله وسلم: فلذلك سعي الناس بينهما”.
سبب اختلاف المؤلفين في طول وعرض المسعى
المتتبّع لكلام العلماء والمؤرّخين في حديثهم عن تحديد عرض المسعى وطوله؛ يجد اختلافًا بينهم في ذلك، ويرجع سبب الاختلاف بحسب أقوال المؤرخين إلى أن المسعى عبارة عن وادٍ بين جبل الصفا وجبل المروة، والوادي يضيق أحيانًا ويتسع أحيانًا، كما أن الاختلاف في تحديد طول المسعى يرجع لنقطة بداية المقياس؛ فبعضهم يقيس المسافة من أعلى الجبل، والبعض يقيس المسافة من أسفل الجبل، إضافة إلى أن هناك سببًا آخر للاختلاف؛ وهو اختلاف العلماء في المقاييس، قال المؤرخ حسين باسلامة “ت: 1359هـ”: “قد اعتنى بذرع شارع المسعى كثير من العلماء في كتب شتى من مناسك وتاريخ وما أشبه ذلك بالذراع والخطوة في الأزمنة القديمة، وبالمتر في العصر الحاضر، ونتج من ذلك خلاف سببه اختلاف المقاييس”.
طول وعرض المسعى
كان من أوائل من تحدثوا بالتفصيل عن حدود المسعى والمسافة التي تفصل الصفا والمروة عن بقية أجزاء المسجد الحرام؛ المؤرخ محمد بن عبد الله الأزرقي “ت: 250هـ” الذي أكد أن طول المسعى “766.5” ذراعًا، وعرض المسعى “35.5” ذراعًا، وإذا كان الذراع 48 سم، فيكون طول المسعى عند الأزرقي “367.68” مترًا وعرضه ١٧ مترًا، كما كان تحديد الإمام محمد بن إسحاق الفاكهي “ت: 280هـ” لعرض المسعى قريبًا من تحديد الأزرقي؛ حيث حدده بخمسة وثلاثين ذرعًا واثني عشر إصبعًا”.
بينما يرى المؤرخ أحمد بن فضل الله العمري، أن ما بين الصفا والمروة سبعمئة وثمانون ذراعًا، أي أن طول المسعى عند العمري “374.40” مترًا، بفارق ٧ أمتار عن الأزرقي.
أما المؤرخون المتأخرون فأغلبهم يرى أن عرض المسعى يتراوح بين ١٠ أمتار و١٢ مترًا، ومن هؤلاء محمد بيرم الخامس “ت: 1307هـ” في قوله عن المسعى: “وبينهما، الصفا والمروة، طريق متسع عرضه ما بين عشرة أمتار واثني عشر مترًا”. ومحمد باشا صادق الذي قال عن المسعى: في شارع عرضه تارة عشرة أمتار، وتارة اثنا عشر مترًا”. وقال إبراهيم رفعت باشا “ت: 1353هـ/ 1935م”، “والشارع الذي بين الصفا والمروة هو المسعى، وطوله أربعمئة وخمسة أمتار، وعرضه تارة عشرة أمتار، وتارة اثنا عشر مترًا”، قال حسين عبد الله باسلامة المكي: “وعرض أصل الصفا التي عليها الثلاثة عقود اثنا عشر مترًا”. وقال محمد طاهر الكردي المكي “ت: 1980م”: “وعرض أصل الصفا التي عليها الثلاثة عقود اثنا عشر مترًا”.
وكانت آخر الأقوال في تحديد عرض المسعى قول اللجنة الشرعية التي كلفت في عهد مفتي المملكة محمد بن إبراهيم آل الشيخ، الذي حددت عرض المسعى بـ١٦ مترًا.