…
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فهذه كلمات أسطرها في ذكر شيء من سيرة والدي -رحمه الله وغفر له- فضيلة الشيخ محمد بن عبدالرحمن الحذيفي:
فمنذ أن تربيت في كَنَفِه طفلًا إلى أن بلغت الأشُدّ؛ لازمته فيما خلا من تلكم الأيام العِظام، فلم أرَ من الأخلاق إلا مكارمها ولا من الشمائل إلا أحاسِنها.
كان -رحمه الله- يقضي يومه في طاعة الله، وطلب العلم، وكثرة الاطلاع، ويستثمر وقته فيما يُصلح دينه ودنياه.
واصلًا لرَحِمه بأنواع الصِّلة، بارًا بقرابته وأهل بيته فوق برهم به، لا يُكَلّف أحدًا فوق طاقته، وكثيرًا ما يُدَبِّر شؤونه بنفسه، ويتعفف عن سؤال من حوله عامّة حاجاته؛ خشية أن يشق عليهم، لا يعاتب المقصر، ولا يُثَرِّب على الغائب، ويلتمس العذر لكل أحد.
سليم الصدر، سهل المَعْشَر، طَلْق المحيا، مثالاً في التواضع، صاحب رأي وحكمة ونُصْح، ذا منطق عذب، ولَباقَة في الحديث، ينتقي كلماته وألفاظه كما ينتقي الآكل أطايب الثمر، يأنس به جليسه لِما يجد فيه من بشاشة ودعابة لاتُنقص من هيبته ومكانته، يأْلَفُ ويُؤلَفُ، إذا نظرت لأخلاقه وحاله فكأنما تنظر إلى الأصفياء من الصالحين والأولياء، يشهد له بالخير والصلاح كل من رآه.
تقلَّد العديد من المناصب حتى وصل أعلاها، وعاشر أكابر الناس فلم يزدد إلا تباسطًا وتواضعًا وزُهْدًا.
كان -رحمه الله- قريبًا من ذوي الحاجات؛ يتفقد أحوالهم، ويجبر خواطرهم، وينظر إليهم بعين العطف والرحمة، إذا قصده أحدهم لم يلبث أن يقضي حاجته إما بمالٍ أو شفاعةٍ أو مشورةٍ.
كثيرَ الإنفاق في وجوه الخير في عُسره ويُسره، حتى صار الكرم والعطاء سمة من سماته البارزة، يَذْكُره بذلك كل من عرفه، يَصْدُقُ عليه قول القائل:
حرٌّ إذا جئتَه يومًا لتسألَه**أعطاك ما ملكتْ كفَّاه واعتذرا
يُخفي صنائعَه واللهُ يظهرُها**إنَّ الجميلَ إذا أخفيته ظهرا
نِعْمَ الأب لأبنائه والزوج لزوجه والأخ لأخيه والقريب لقرابته والجار لجيرانه والصاحب لأصحابه، ونِعْمَ السند والعون هو، ما رأت عيني مثله قط في حسن الخُلُق.
أكرم من حوله بعظيم سجاياه فأكرمه الله تعالى في حياته ويوم مماته؛ فقد متّعه الله بِقواه ولم يُرَدّ إلى أرذل العمر حتى قُبِضَ في خير مكان وزمان.
وأحسَبُ هذا التوفيق من الله؛ لشدِّة تعظيمه شأن الصلاة، التي ما كان يغضب على أحدٍ كغضبه على المتهاون فيها، ولقد حدَّثني من رافقه في آخر أيامه من الأطباء عن قوة صبره وإيمانه وشدِّة حرصه على الصلاة، حتى لقي الله.
توفي -رحمه الله- بالبلد الحرام، عصر يوم الجمعة، لخمسِ ليالٍ بقينَ من رمضان، ونُقل إلى مدينة المصطفى ﷺ، وصلى عليه جَمْع غَفير من المسلمين، يؤمُّهم شقيقه ورفيقه فضيلة الشيخ علي بن عبدالرحمن الحذيفي -حفظه الله وأطال بقاءه-، في مسجد رسول الله ﷺ، ليلة السابع والعشرين -التي يُرْجى أن تكون ليلة القدر-، ودُفِن في بقيع الغَرْقَد، بجوار خير الأنام وصحبه الكرام، وأدى العزاء خَلْقٌ كثير من الوجهاء والأتقياء والأقرباء وغيرهم ممن لا أُحصي، وحزن لفقده كل من عرفه وسمع به، فهنيئًا له هذه السيرة العطرة، وهذه الخاتمة الحسنة، غفر الله له ورحمه.