لم يأتِ لقب عميد الأدب العربي الذي مُنِحه المفكر الأديب طه حسين عبثًا؛ وإنما استحقاقًا لا يليق إلا به، ولا يصلح إلا له، وفيه يصلُح أن يُقال: «أتتهُ العمادةُ منقادةً / إليهِ تجررُ أذيالَها..». فمنذ أن فقدَ نورَ بصره في طفولته عوَّضه الله عن ذلك ببصيرة نافذة، وفكر ثاقب، حتى غدا قُطبًا من أقطاب الثقافة العربية، وعَلمًا من أعلام التنوير العربي، وربما كان الأبرز والأشهر، وكانت له مؤلفاتُهُ العديدة القيِّمة التي حركت ساكن المشهد الثقافي العربي، ورؤيتُهُ الجريئة حول التعليم، وغيرها من الإسهامات التي لا يزال المثقف العربي يتعاطاها ويجادل بشأنها. لعل من أبرز مؤلفات طه حسين التي أثارت لغطًا كبيرًا واختصم الناس بشأنها مؤلفَين، هما (في الشعر الجاهلي، ومستقبل الثقافة في مصر)، ولعله في كتابه الأول لم يجافِ الحقيقة؛ فالشعر الجاهلي ليس وحيًّا منزلاً، ولم يصل كله إلينا متواترًا، ولذا ربما كان بعضه منحولاً، وهنا تحضرني مقولة مفادها (إن أصح بيتِ شِعرٍ جاهلي لا يصل في صحته إلى درجة أضعف حديث نبوي)، ومع هذا فحينما أعملَ طه حسين منهج الشك في الشعر الجاهلي لم يكن مرتكبًا إثمًا، أو قطيعة رحم مع العصر الجاهلي وأعلامه وأشعاره.
في كتابه الآخر (مستقبل الثقافة) قامت قيامة معارضيه، فجعلوا من الكتاب رِجسًا ينبغي التبرُّؤ منه ومصادرته واستتابة مؤلِّفه، وما ذاك إلا لأن المؤلِّف صرح وفق رؤيته أن السبيل للوصول للحضارة والأخذ بأسبابها هي «أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون أندادًا لهم، ولنكون شركاء لهم في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب»، وهذه المقولة (بالذات) من كتاب طه حسين الذي بلغ (٣٠٠) صفحة هي التي تمسَّك بها خصومه وشددوا عليها. القارئ لكتاب (مستقبل الثقافة) يلحظ أن القضايا التي أثارت المناوئِين بالإضافة للقضية الرئيسية -وهي التي أوردتُها قبل قليل- لايتجاوز عدد صفحاتها (٦٠) صفحة من الـ(٣٠٠) المذكورة آنفًا، وبقية الصفحات تتكلم عن قضايا التعليم وشؤونه في مصر.
مشكلة النقد أنه يأتي أحيانًا غير موضوعي، فهو يجتز جزئية معينة من الكتاب المنقود ويضخمها حتى تطغى على حسنات الكتاب وإيجابياته، وهذا ما حصل مع كتاب (مستقبل الثقافة)، مع أن المؤلِّف وضح وبرر -في الكتاب نفسه- موقفَه حين قال صراحةً: «لا ندعو لأن نكون صورًا طبق الأصل للأوربيين كما يقال، فذلك شيء لاسبيل إليه ولا يدعو إليه عاقل، الأوربيون يتخذون المسيحية لهم دينًا، فنحن لاندعو إلى أن تصبح المسيحية لنا دينًا وإنما ندعو إلى أن تكون أسباب الحضارة الأوربية هي أسباب الحضارة المصرية؛ لأننا لا نستطيع أن نعيش بغير ذلك فضلاً عن أن نرقى ونسود».
من هذا يتضح أن دعوته لم تكن مصادِمة للدين وقيمه، ثم إنه لم يطلق الكلام ويجعله عرضة للتأويل، بل عاد وقيده وأوضح ما استغلق منه. ولذا فمن الإنصاف مع المؤلفات -وخاصة المُختَلَف عليها- ألا نُنيب غيرَنا لقراءتها، ثم نكتفي بقراءتهم لها ونرتضيها، ثم نبني تصورَنا عنها وفق قراءاتهم وأحكامهم، بل ينبغي أن نقرأها بأنفسنا بروية وتجرُّد من الأفكار المسبقة، وعندها سنقف على جُودي الحقيقة. ومع هذا فمؤلفات طه حسين وغيره ليست وحيًا حتى تخلو من الأخطاء، إنما هي أفكار بشرية يعتريها الخطأ، لكنه ربما لايشكل شيئًا بجانب كَمِّ صوابها وإيجابياتها. ما حصل لي مع كتاب (مستقبل الثقافة) حصل مع كتاب (خواطر مصرَّحة) لمحمد حسن عواد، ولولا أنني تجاسرت فقرأت مستقبل الثقافة لظل -وفق تصوري المسبق عنه- شبحًا ورجسًا، وهو ما حصل مع خواطر العواد أيضًا عندما تجاسرت فقرأتُها، وقد كتبتُ عنها في حينها مقالاً بعنوان (خواطر مصرَّحة على مسطرة الحاضر). فقط.. دعُوا الإنابة في القراءة، واقرؤوا بأنفسكم لتُنصِفوا المقروء.