دعا مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل، المواطنين إلى إعادة نشر مقالة للزميل فهد الأحمري في الصحف المحلية حاثًا الشعب السعودي على قرائتها.
واقتبس الفيصل فقرة من المقالة المنشورة في صحيفة الوطن بعنوان: من السواعد الحمراء إلى السواعد السمراء، وثق فيها الكاتب نمط المعيشة لأجيال من السعوديين، وكيف أدركوا هذه الطفرة بعد كل تلك المعاناة في وقت قصير نسبياً.
وقال الفيصل :” أقدم هذه الفقرة إلى كل سعودي يعتز بوطنه ومواطنيه».
نقدم لكم قراءنا الاعزاء مقالة الاحمري:
من السواعد الحمراء إلى السواعد السمراء
المواطن السعودي ما زال مرتبطا بالماضي الذي يعشقه، فهو يخرج في إجازاته الأسبوعية من القصور والفلل والبيوت إلى حيث جَمال الجِمال والخيام والصحراء ليقضي أسعد لحظاته
في إحدى المحاضرات تحدث البروفسور الأميركي عن حضارات العالم وتطور الشعوب عبر التاريخ الطويل من المد الحضاري. عقِب المحاضرة، فُتح المجال أمام الحضور للمشاركة. تداخل أحدهم فقال لن أذهب بعيدا، وسأحدثكم عن نفسي. في طفولتي، رعيت الغنم في إحدى المناطق الرعوية في بلادي السعودية، وعملت مع والدي ووالدتي في حرث الأرض، بالطبع ليس بالآلات الزراعية الحديثة، بل على أخشاب بدائية تجرها الثيران. حصدت الزرع بيدي، وجلبت الماء مع أمي راكبا حمارا أعرج، كنت أحبه لأنه بطيء، ولشعوري كطفل أنني أتمرجح فوقه، حيث لم تكن مفردات ملاه وترفيه ورياضة قد دخلت قاموس قريتي.
انتقلت وأسرتي إلى قرية أخرى عبر سيارة صالون من خشب «الأبلكاش» كأول تجربة لركوب السيارة. التحقت حينها بالابتدائية، وبدأت حينئذ مرحلة التطور، حيث تعرفت على الجبن والميرندا والأرز وخبز ليس من تنور أمي. ولأول وهلة أشاهد السيكل الذي لم أستطع امتلاكه إلا في الصف السادس.
في الصفوف الابتدائية المتقدمة، بدأت أكوي ثوبي بمكوى جمر، حيث لا توجد كهرباء تساعد حينئذ…إلخ حديثه.
قال البروفسور بعد أن ترك كرسيه ووقف يستمع للحديث الملهم: وماذا عنك الآن؟ أجاب: اليوم أنا رئيس قسم في شركة من كبريات شركات العالم، وأحضّر الماجستير، وأمامي أهداف عظمى. وأردف الشاب السعودي؛ هذه النقلة السريعة ليست لي وحدي، بل عاشها غالبية السعوديين من جيلي، والتي تمت في غضون فترة وجيزة جدا من حسابات الأوطان التي لا يمكنها النهوض بمواطنيها إلا عبر عشرات العقود من التنمية البشرية.
صفق المحاضر طويلا، وتقدم إلى المتحدث وصافحه بحرارة، وفعل الحضور كذلك.
هذا نموذج يسير للقفزة الهائلة التي عاشتها البلاد، وسخّرت إمكاناتها لتنقل مواطنيها من الجمال والخيام والأمية إلى الحضارة والعلم والمدنية. هبطت نسبة الأمية من 40 % في الثمانينات إلى 2,3 % حسب آخر إحصائية.
على مستوى الوطن، كانت النقلة إلى مصاف الدول العشرين التي تلعب دورا محوريا في اقتصاد وتجارة كوكب الأرض.
يقول قائل؛ هذا بسبب النفط. صحيح، هذا بسبب النفط ولا عيب في استغلال خيرات الوطن لنهضة الوطن والمواطن والمقيم أيضا غير أن هناك دولا نفطية عربية وغير عربية لم تقدم لوطنها ولا مواطنيها كل هذا ولا حتى قريبا منه. على سبيل المثال، هناك دولة عربية نفطية تعد ثاني أكبر خزان نفطي في العالم، رغم هذا فالأمية فيها تشكّل 20 % فضلا عن غياب البنية التحتية. دولة عربية نفطية أخرى تُعد التاسعة ضمن أكبر عشر دول ذات احتياط نفطي بينما هي ـ وحسب تقرير الأمم المتحدة الإنمائي- تقبع في الترتيب الـ102 في التنمية البشرية، وتأتي تحت دول كـ«فيجي ومنغوليا وتونغا»، والتي تعتمد اقتصاديا على تحويلات نصف سكانها المغتربين.
نعم، في السعودية، يوجد قصور إداري وسوء تخطيط في بعض الجوانب من مؤسسات الدولة، وبالطبع نحن لسنا في حالة رضا عن تلك السلبيات، ومع هذا فلا يُنكر النقلة النوعية في البلد إلا جاحد أو حاقد.
النقلة النوعية تلك، تتمثل أيضا في أكبر شركة نفط في العالم، والتي كانت تملكها شركة أميركية بالكامل اسما وسهما وإدارة وموظفين على الأراضي السعودية. كان التوطين فيها صفرا أو قريبا من هذا عدا أعداد قليلة، كعمال سعوديين يمنعهم القيادي الغربي من شرب الماء من البرادة. في سنة 1950 حصلت الحكومة السعودية على حصة يسيرة من شركة أرامكو الأميركية، لكنها تحسنت النسبة سنة 1973، فوصلت إلى 25 %. شيئا فشيئا، حتى سيطرت الحكومة على ملكية الشركة بالكامل سنة 1980، وعليه، تم تعديل اسمها إلى شركة الزيت العربية السعودية، واختصارا «أرامكو السعودية» للحفاظ على الاسم التجاري العالمي. لم تكن السيطرة في حدود الملكية فحسب، بل تناولت الموارد البشرية السعودية التي تدرجت نسبتها من الصفر إلى ما يقارب 90 % حاليا بين قياديين على هرم الشركة وفنيين وموظفين. في الثمانينات الميلادية، شهدتُ بنفسي خطة الشركة لإحلال الشاب السعودي محل الأميركي والبريطاني وغيرهما في مجالات قيادية وهندسية، وتشغيل وصيانة. وبهذه المناسبة، وفي محفل بهيج، آنذاك، كان لي شرف إلقاء كلمة منظومة بعنوان: من السواعد الحمراء إلى السواعد السمراء.
ورغم هذا فإن المواطن السعودي ما زال مرتبطا بالماضي الذي يعشقه، فهو يخرج في إجازاته الأسبوعية من القصور والفلل والبيوت إلى حيث جَمال الجِمال والخيام والصحراء ليقضي أسعد لحظاته ليعود بداية الأسبوع فيقود بلاده إلى مصاف الدول الأكثر تأثيرا ومكانة اقتصادية وسياسية واستراتيجية وقبل ذلك، المكانة الروحية.