الشيخ محمد بن محمد الحذيفي العامري
فارس الإحسان ورفيق الأذان
هذه السطور القليلة المباني، المتدفقة بجميل المعاني، تتحدَّث عن شيخٍ وقور، مَن جالسه بُثّ في قلبه السرور، لأنه كان بفعل المعروف معروفًا، وبالاستقامة والخُلُق الحَسَن موصوفًا، وبذوي الحاجة والمساكين رؤوفًا.
رجلٌ تُغنيك آثاره عن التعريف بسيرته، وأمّا خاتمتُه فإنها تُنبئك عن سريرته، وهكذا المخلصون -نحسبه والله حسيبه- أعمالهم تُصَدِّق أقوالَهم، وهِمَمُهم تكشف لك عن بُعْد شَأوهم، كانوا قليلاً ما يأخذون، وكثيرًا ما يبذلون.
لقد فقد أهالي مركز "بحر أبو سكينة" خصوصًا وأهل الجنوب عمومًا بحرًا من الخير زاخرًا، وغُصنًا من البِرِّ ذاخرًا، كان في سماء الإحسان كوكبًا ساطعًا، وعلى صفحات السماحة حرفًا لامعًا.
وكان -رحمه الله- للمعروف طودًا شامخًا، وجبلاً من الأخلاق باذخًا، وافَتْهُ منيَّتُه على وِفْقِ أُمنيته، فما أجمل الأماني حينما تُعانق عَنانَ السَّماء، فتأتي المنيَّةُ على صوت النداء، وهكذا هي خاتمة السعداء، وآخر صفحة في ديوان الأتقياء.
عرفته قبيلته وجلساؤه صالحًا ومُصْلِحًا، وناصحًا بالحقِّ وعنه مُنافِحًا، لم يألُ جهدًا في جمْع شتات القلوب، وسدِّ الخَلَل ورَتْقِ العيوب، فنَظَمَ بلين خِطابِه، وتمامِ لُبابِه، عقود أواصر القُربى، ونثر على الأفئدة الوئام والرِّضا.
إنه الشيخ محمد بن محمد بن عبد الله بن علقمة الحذيفي العامري ، وُلِدَ -رحمه الله- سنة ١٣٦٦هـ بين أبوين صالحَين، ونشأ في منطقة عسير ببلاد "آل مرضي"، وكانت نشأته قد جمعت بين عادات القُرى المحافظة والتديّن، فاغترف بذلك غُرفتَين، غُرفة من نهر العادات القبلية الحسنة، وغُرفة من نهر البيئة المتدينة والتي كانت تكتنف مرحلة طفولته، وتُظلله غمامته، فشبَّ على خير وصلاح، وهدىً وفلاح، وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة والقرآن الكريم على يد والده وإمام جامع القرية -رحمهم الله-.
ولـمَّا اخْضَرّ عُوده، وأينع عنقوده، وبلغ أشدّه واستوى، وطاب غرسه ونما، انتقل في عام ١٣٨٩هـ إلى مدينة الطائف مُلتحقًا بالحرس الملكي، وكان مع أدائه عمله الوظيفي، يواصل إكمال تعليمه النظامي؛ حتى أكمل المرحلة الابتدائية والمتوسطة، وفي أثناء مقامه في الطائف عضَّ بالنواجذ على كُلّ فرصةِ خيرٍ لاحت، فواظب على حضور حِلَق العلماء من أمثال سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- وغيره من العلماء، فملأ جِراب وقته من جواهر علمهم، وملأ حِياض عقله من معين فهمهم.
وقد استمر الفقيد -رحمه الله- في عمله العسكري يُميِّزه في ذلك الجدّ والاجتهاد عملاً وتدريبًا ومواظبةً، واستمر في السلك العسكري حتى عام ١٤٠٠هـ.
ولكنَّ همته ولَّت وجهها شطْر والديه، ولسان الحال يقول:
وألقتْ عصاها واستقرَّتْ بها النَّوى
كما قَرَّ عينًا بالإيابِ المسافرُ
فألقى عصا الترحال ليستقرّ بمنطقة عسير، رغبةً منه في القُرب من والديه وبرّهما، وخدمتِهما وتولّي شؤونِهما، وتسلَّم وقتها إدارة البريد السعودي في مركز "بحر أبو سكينة"، مع توليه إمامة "مسجد التقوى" -وهو المسجد الذي ختم به آخر حياته صادحًا بصوت النداء يشق السماء- .
ولارتباط الفقيد -رحمه الله- بالقرآن وأهله، فقد كان أحد مؤسسي حلقات تحفيظ القرآن الكريم في المنطقة.
وكان -رحمه الله- قد شارك في عام ١٤١٩هـ فضيلةَ الشيخ/ هاني الجبير قاضي "بحر أبو سكينة" وبعضَ الدعاة إقامة الدروس العلمية، والكلمات الوعظية، وكان في ذلكم الأثر العظيم، والنفع العميم.
وفي عام ١٤٢٣هـ أسَّس مع فضيلة الشيخ/ ناصر الحربي جمعيةَ البِرِّ بمركز "بحر أبو سكينة"، ولمّا أُحيل إلى التقاعد من عمله في البريد السعودي لم تفتر رغبته، ولم تقعد عن الخير همّته، بل تولَّى إدارة جميعة البرّ بعد أن كان من مؤسسيها، ثم عُيِّن أمينًا لها إلى أن توفي -رحمه الله-.
وباتجاه الفقيد -رحمه الله- إلى العمل الخيري كرّس جُهده وثقة الناس في ديانته وأمانته في خدمة أعمال البِرّ، فأوجد أوقافًا تدعم أعمال جمعية البر، فنمتْ أغصان الخير وبَسَقَتْ، وامتدّ نفعُها، ودرَّ ضرْعُها، وآتت أُكلها، وأينع ثمرها.
ولمّا حان وقت الانصرام، ورُفِعت الأقلام، وطُويت صفحة العُمُر، ليُوافق الخُبْر الخَبَر، فأتته المنيةُ وهو يُؤذِّن لصلاة المغرب في يوم الخميس الموافق ١٤٣٨/١١/١١ وقد قال عليه الصلاة والسلام: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ علَى ما مات عليه» رواه مسلم .
وصُلِّي عليه بعد أداء صلاة الجمعة ودُفِنَ في مقبرة مركز"بحر أبو سكينة"، وقد شهد جنازته جمعٌ غفير من أهل الخير والصلاح، وتواترت الألسن بالثناء عليه بالخير والإصلاح.
رحم الله العم الشيخ/ محمد بن محمد الحذيفي، فلقد فارق الحياة الدنيا، وهِمَّتُه تنطح الثُّريا.
هكذا هكذا تكون المعالي
طُرقُ الجدِّ غير طُرقِ المزاحِ