قبل أن يطرق الشتاء أبوابه رسمياً، وقبل أن تنخفض درجات الحرارة وتطول ليالي البرد، يكون وادي الدواسر قد أعلن استعداده… لا بقراءة نشرة الطقس، بل بطقوسٍ متوارثة، يعرفها المكان ويجيد أهلُه أداءها جيلاً بعد جيل.
منذ أن يبدأ الثلث الأخير من ديسمبر، لا ينتظر سكان المحافظة إعلان الشتاء بقدر ما يستشعرونه في دواخلهم؛ هنا يبدأ الاستعداد قبل البداية، وتتحول الأيام إلى حكاية انتظارٍ جميل، تُكتب فصولها على رمال البر، وتُضاء سطورها بشعلة نار هادئة في قلب المخيم.
تُجهَّز المخيمات بعناية، وتُنصب في مواقع اختارها الشغف قبل الجغرافيا؛ تُعدّ المشبات كما تُعدّ الذاكرة، ويُشترى الحطب المستورد عالي الجودة، لا ليشعل النار فحسب، بل ليحافظ على دفء السمر، وعلى استمرارية مجلسٍ يعرف كيف يجمع القلوب قبل الأجساد.
وحين تشتعل النار، يبدأ المشهد الذي لا تلتقطه الكاميرات بقدر ما تحفظه الذاكرة؛ وجوه تتقابل على ضوء اللهب، وأحاديث تمتد كما تمتد الظلال، وذكريات تعود من أعماق الزمن، يوقظها صوت طقطقة الحطب ورائحة الأرض.
في تلك المجالس، تُلقى القصائد بلا تكلف، وتُروى القصص بلا استعجال، ويتبادل الجالسون ضحكاتٍ صادقة وحكاياتٍ دافئة، كأن الشتاء نفسه يجلس بينهم مستمعاً لا زائراً؛ وتدور فناجين القهوة السعودية أولاً، بوصفها عنوان الكرم وبداية السمر، ثم تتبعها مشروبات الشتاء المعتادة، وفي مقدمتها الزنجبيل، الذي لا يُقدَّم لمواجهة البرد فقط، بل ليكمل طقساً متكاملاً من الألفة والطمأنينة.
في وادي الدواسر، الشتاء ليس فصلاً يبدأ بموعدٍ فلكي، بل حالة شعورية تُستحضر مبكراً؛ هو حنينٌ جماعي، واستعدادٌ نفسي، واحتفاءٌ بالقيم التي لا يغيّرها الزمن: الاجتماع، والسمر، والحديث الصادق، والنار التي تجمع ولا تحرق.
هنا، لا يُقال إن الشتاء قد بدأ… بل يُقال: نحن مستعدون له؛
ففي وادي الدواسر، يسبق الدفءُ البرد، وتسبق الحكايةُ الفصل، ويبدأ الشتاء حين يقرر الناس أن يعيشوه.
مبارك بن عوض الدوسري
@mawdd3