أدى جموع المصلون صلاة يوم الجمعة في جنبات المسجد الحرام وسط منظومة متكاملة من الخدمات والترتيبات التي أعدتها الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي لاستقبال المصلين والعمّار وتوفير كافة الخدمات لهم كي يؤدوا عبادتهم بكل يسر وخشوع.
وقد أمّ المصلين معالي الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي أمام وخطيب البيت العتيق الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس وقال إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، نحمده سبحانه فلم يَزَل إحْسَانُه هامِرَا، بَاطِنًا وظاهرا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مَنَّ علينا بدين يسمو بالشباب طاهرا، ولآلاء المُنعِم شاكِرَا. وأشهد أنَّ نبيّنا محمدًا عبد الله ورسولُه، بَدَّدَ ظُلماتِ الضلالة فَغَدَا نور الهُدَى بَاهِرَا، صَلَّى الله وبَارك عَليه، وعلى آله الذين نشروا من الحَقَّ ما كان عَاثِرَا، وشادُوا من صَرْح الفضائل ما كان دَاثِرَا، والتابعين ومَن تبِعَهم بإحسان إلى يوم الدِّين، وسَلّم تسليمًا كثيرا.
معاشر المؤمنين: إن الناظر في تاريخ الحضارات، وواقع الشعوب والمجتمعات، والمتأمل في أحوال قادة الفكر ورُوَّاد العلم والطموحات، يتوسَّم من غير مَشَقَّةٍ أو عَنَاء حقيقة تبعَثُ على الإجلال والانْبِهَار؛ وهي أن وراء ذلك كله نُخَبٌ وادعة، وكَوْكَبَةٌ سَاطِعَة، وفئة لامعة : إنها فئة الشباب؛ فالشباب في ذلك كله الركن الركين، والكنز الغالي الثمين، هم الرَّيْحَانة الشذية، والسواعد الفتية، والأمل المشرق، والجبين الوضّاء.
إخوة الإسلام: لقد أولى الإسلامُ الشَّبَابَ كامل العناية، والاهتمام والرعاية، حتى من قبل ميلادهم، حيث أوصى الزوجين بحسن اختيار كل واحد منهما لشريك حياته، ثم عُني به جنينا في بطن أمه، ثم رضيعًا، ثم صبيًا، ثم طفلاً مُمَيِّزًا، ثم شابًا ، وقد ذكر النبي أن من الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله، “شابٌ نشأ في عبادة الله” (متفق عليه).
وقال معاليه :” يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أَغَضُّ للبصر” أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقد أخرجت هذه العناية الفائقة صُوَرًا مُشْرِقَةً من شباب حازوا قَصَبِ السَّبْقِ في إعلاء القيم، والتمسك بالفضائل وحُسْن الشِّيَم، حتى كان الناس يدخلون في دين الله أفواجًا لِمَا يَرَوْنَهُ من الأخلاق الحميدة، والبطولات الفريدة، والأفعال الراقية المجيدة
كم كان عُمْرُ علي بن أبي طالب الذي حمل الراية يوم بدر؟، وكم كان عُمْرُ أسامة يوم قاد الجيش؟ ، وكم كان عُمْرُ الحَبْرِ ابن عباس يوم مات النبي ؟، وزيد بن ثابت كاتب الوحي، ومصعب سفير الإسلام ؟، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة؟، ومعاذ حين بعثه النبي قاضيا ومفتيا لأهل اليمن، وعُمَر بن عبد العزيز حين صار أميرا للمؤمنين؟ والشافعي الإمام حين حفظ الموطأ وجلس على كرسي الفتيا، كلهم كانوا في سن الشباب وغيرهم ألوف بل ألوف الألوف.
وأضاف أمة الإسلام: مرحلة الشباب هي مرحلة تقوية المُعْتَقَد، وتكوين الفكر، وسلامة المنهج، وفيها يُعَزِّزُ الإنسان نفسه وذاته، و هدفه وغايته، لذا فمن أهم المهمات وأوجب الواجبات؛ توجيه طاقته نحو المكارم والمراشد، وتحصينه من البوائق والمفاسد، ويحصل ذلك بأمور ؛ أهمها: تحصينه بالعلم الشرعي، فبالعلم الشرعي تُصَانُ الحُرُمات، وتُحْفَظ حدود الدين من الانتهاك والتعدي، وبالعلم الشرعي يَنال المرء السَّبْق إلى السؤدد في الدنيا والآخرة، وحتى يكون الشرع هو الهادي والمُرْشِد، فلا تتحكم في الشباب عَاطِفَتُهُ، ولا تَقُودُه حَمَاسَتُهُ، إنما يسير على طريق الهداية بتوجيه العلماء الثقات، والشيوخ الكبار، ممن لهم عِلْمٌ وَاسِعٌ، وتجاربُ نَافِعَة، فيهتدي بِنُصْحِهِم، ويعمل بمشورتهم، ويُرجى أن يكون بعد ذلك أكثر نفعًا لأمته، ودينه، ويكون أكثر حماية ممن يكيد بالشباب لصرفهم عن رسالة الحق، ونشر النور في الأرض.
ثانيها : تَحْفِيزُ الشَّبابِ إلى السَّعْي في بِنَاءِ الأوطان وعِمَارَتِهِا، من خلال حُسْنِ الظَّنِّ بهم وتمكينهم وبيان أنَّ الانتماء إلى الوطن ليس مُجرَّدَ عاطِفَة غامرة أو مشاعر جيَّاشة فحسب، بل هو مع ذلك إحساسٌ بالمسؤولية وقيامٌ بالواجبات، إن المواطنة شَرَاكةٌ بين أبناءِ الوطن في الحياة والمصير والتحدِّيات، وفي المكتسباتِ والمُنْجَزَات، وفي الحُقُوقِ والوَاجِبَات، ومَثَلُنَا في هذا الوطن كَمَثَلِ الجَسَدِ الوَاحِد، وبناء الوطن امتثال لمهمة الاستخلاف في الأرض وإعمارها وذلك من خلال الرؤى المستقبلية، والخطط الإستراتيجية، والاستثمارات الحضارية، والمنشئات التقنية، إلى غير ذلك من الفاعلية الإيجابية، والإسهامات الإنتاجية؛ وعلى عَاتِقِ الشَّبَاب يَقَعُ العبء الأكبر في بِنَاءِ الأوطان وعِمَارَةِ الأرْضِ ؛ لأنه الطَّاقَةُ الفَاعِلَة، والعَقْلُ المُفَكِّر، واليَدُ العَامِلَة.
وفي الخطبة الثانية تحدث معالي الرئيس العام وقال إن ما يميز المجتمع الإسلامي عن غيره أنه آخذ بعضه بيد بعض، يوصي بعضهم بعضًا بالحق والصبر عليه، ويتعاونون على البِرِّ والتقوى، فشريعتنا الغراء لا تعرف الانعزالية والانغلاقَ، والتقوقعَ والجمود، لكنها تعرف الانفتاح والتجدد والمرونة وَفْقَ المتغيرات والمستجدات، مع المحافظة على الثوابت والمُسَلَّمَات. فلتكونوا أيها الشباب على قدر هذه المسئولية. ابتداءً بأنفسكم : جوارِحِكم وَأبَدَانِكم، وَأرواحِكم وعقولِكم، وَعِلْمِكم وَعَمَلِكم، وعبادَاتِكم ومعامَلاتِكم، وإن عليكم معشر الشباب مسئوليات وواجبات تجاه دينكم ووطنكم ومجتمعكم؛ فمنها: الإخلاص لله في القَوْلِ والعَمَلِ، وكما يعتني الشاب بسلامة بَدَنِهِ ومَظْهَرِهِ فكذلك يعتني بسلامة قلبه ونفسه، فلا يفتح على نفسه أبواب الشهوات، ولا يُورِدها مَظَانَّ الشُّبُهات، ولا يَلِجُ بها مَرَاتِعَ الفِتَنِ والمعاصي، ويُعلِّم الجاهل، ويُرشد الضَّال، ويدعو الناس إلى الخير والهُدَى، وما ظَهَرَ الدِّين وعَرَفَ الناس شرائع النبيين إلا بفضل الله ثم الشباب الصالحين؛ فهم النُّقَبَاء والحواريون، والأنصار والمهاجرون، وهم العلماء والمعلمون.