67 عامًا هجريًّا مضت على وفاة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود مؤسس وطننا الكبير (المملكة العربية السعودية)، لكن ذاكرة الوطن ظلت تختزل تفاصيل شخصية هذا القائد الملهم جيلًا بعد جيل؛ فهو الذي أفنى عمره في مواجهة تحديات الحياة بالجزيرة العربية التي كانت ترزح قبل أكثر من 8 عقود تحت وطأة التناحر والخوف.
النشأة والمولد.. للملك المؤسس
اختلف المؤرخون حول تاريخ ولادة الملك عبدالعزيز آل سعود، إلا أن الكثير منهم ذهبوا إلى مصادر المؤرخ هاشم بن سعيد النعمي الذي أوضح أنه ولد في مدينة الرياض عام 1293هـ الموافق 1876م، بحسب ما ورد في مجلد تاريخي من بين 12 مجلدًا طبعتها دارة الملك عبدالعزيز عن سيرة وشخصية الملك عبدالعزيز ومراحل بناء الدولة السعودية الثالثة. وتستعرض “واس” صفحات هذه المجلدات بمناسبة اليوم الوطني للمملكة الثامن والثمانين.
الرياض التي تشرّفت بولادة الملك عبدالعزيز، تقع في بطن الجزيرة العربية بنجد مرتفعة عن سطح البحر 600 متر، وهي مدينة ضاربة في عمق التاريخ. ودل على ذلك الوجود البشري الذي عثر فيها منذ نحو 250 عامًا، بالإضافة إلى بعض الأدوات الحجرية القديمة في بعض المواقع الاستيطانية التي تعود إلى العصر الحجري الحديث، وتمركزت في المواقع القريبة من روافد وادي حنيفة، والمناطق المحيطة بالرياض جنوبًا وشرقًا وغربًا.
تأثرت شخصية الملك عبدالعزيز كثيرًا بوالده الإمام عبدالرحمن الفيصل؛ حيث كان أبًا، وُمعلمًا، وأخًا، وصديقًا لابنه، فضلاً عن شخصية والدته الأميرة سارة السديري التي كانت من أكمل النساء عقلًا وتدبيرًا، وكان محبًّا لإخوته (خالد، وفيصل، وفهد، ومحمد، ونورة)، لكن علاقته بالأميرة نورة كانت أكثر حميميةً، واحتلت مكانة كبيرة في نفسه حتى إنه ينتخي بها بالقول: “أنا أخو نورة.. أنا أخو الأنوار”، كما كان يحرص على زيارتها يوميًّا في منزلها.
شخصية أبهرت المؤرخين.. قالوا عنه
وللملك عبدالعزيز شخصية قوية آسرة، ومهابة تأثر بها كل من قابله، وفي المقابل كانت له صورة باسمة مشرقة بأسارير متهللة بما عُرف عنه -رحمه الله- من لين الجانب والتواضع والمرح، وعدم تكلّفه في الحديث مع أبناء شعبه ورعيته، فضلًا عن كرمه وسخائه مع الجميع، فلم يكن ملكًا فقط، بل كان رب أسرة ومحبًّا للجميع، ورجلًا قدوة في أفعاله وسلوكياته.
وأبهرت شخصية الملك عبدالعزيز الكثير من المفكرين والمؤرخين في العالم، ومنهم المؤرخ الصيني البروفيسور يانج يان هونج الذي قال عنه: “لقد كان الملك عبدالعزيز أحد العباقرة الذين قدموا لأممهم وأوطانهم خدمات جليلة بجهودهم الجبارة التي لا تعرف الكلل أو الملل، وأثروا في تطور المجتمعات البشرية وتقدمها نحو الغاية المنشودة، وسجلوا مآثر عظيمة في السجل التاريخي المفعم بالأمجاد الخالدة”.
ووصف الدكتور فون دايزل النمساوي، الذي زار المملكة عام 1926م؛ الملك عبدالعزيز بالنابغة، مستشهدًا بالقول : “إذا عرفتم أن ابن سعود نجح في تأليف إمبراطورية تفوق مساحتها مجموع مساحات ألمانيا وفرنسا وإيطاليا معًا، بعد أن كان زعيمًا لا يقود في بادئ الأمر سوى عدد من الرجال، تمكن بمساعدتهم من استرداد الرياض عاصمة أجداده؛ لم يداخلكم الشك في أن هذا الرجل الذي يعمل هذا يحق له أن يسمى (نابغة)”.
وُعرف عن الملك عبدالعزيز احترامه الكبير للعلماء طوال حياته؛ يقدمهم على إخوته في مجلسه، ويستمع إليهم، ومبعث ذلك إيمان الملك عبدالعزيز التام بقيمة العلم والعلماء وأثرهم في الحياة، وأن احترامهم وحسن العلاقة بهم والاستئناس بآرائهم واجب تمليه العقيدة الإسلامية التي ظل مطبقًا لمنهجها -رحمه الله- في حياته الخاصة، والحياة العامة في البلاد، ومضى على ذلك النهج من بعده أنجاله الملوك البررة.
محطات في حياة الشخصية الفذة
مرّ الملك عبدالعزيز بأحداث ومحطات متعددة في حياته كانت مؤثرة في بناء شخصيته الفذّة، خاصةً منذ أن بلغ سن الخامسة عشرة من عمره أو أقل من ذلك، لكن هذه الأحداث أسهمت في صقل شخصيته؛ حيث تعلّم منها الصبر، والقوة، والجلد، والإقدام.
وعدّ المؤرخون خروج الملك عبدالعزيز، مع والده الإمام عبدالرحمن، وبعض أفراد أسرته من الرياض عام 1308هـ الموافق 1891م؛ الحدث الأصعب في حياته؛ إذ غادرها وهو في سنة الـ12عامًا، وقيل: 15 عامًا.
وكانت محطتهم الأولى بعد الرياض واحة “يبرين” في الأحساء، فالبحرين، إلى أن وصلوا فيما بعد إلى الكويت واستقروا بها عدة سنوات ظل فيها الملك عبدالعزيز معلق القلب بالرياض التي ولد وترعرع فيها، وكبرت فيها تطلعاته وآماله.
وعندما بلغ الملك عبدالعزيز سن العشرين من عمره وهو في الكويت، توجه في الخامس من شهر رمضان عام 1319هـ إلى الرياض في رحلة بطولية قاد مسيرتها بصحبة 40 رجلًا، ليتمكنوا -بفضل الله تعالى- من اختراق جوف الصحراء التي تلتهب رمالها تحت أشعة الشمس الحارة، وصاموا رمضان في واحة “يبرين” في الأحساء، وعيَّدوا في موقع يقال له: “أبو جفان”.
وأثناء السير في الطريق، اتخذ الملك عبدالعزيز آل سعود من واحة “يبرين” مقرًّا له لتنفيذ خطته لإعادة الرياض. وتقع هذه الواحة بمحاذاة رمال الربع الخالي من الشمال على بعد 160 ميلًا جنوب الأحساء، و175 ميلًا عن الرياض شرقًا. وأثناء السير مرّ الملك عبدالعزيز ورجاله بـ”حرض” وهي إحدى قرى الأحساء.
وفي اليوم الرابع من شهر شوال من عام 1319هـ الموافق 15 يناير 1902م، وصل الملك عبدالعزيز ورجاله إلى “ضلع الشقيب” الذي يبعد عن مدينة الرياض نحو ساعة ونصف مشيًا على الأقدام، ومن الضلع تقدموا إلى الرياض التي دخلها الملك عبدالعزيز بذكاء القائد المحنك، وأعاد الأمور إلى نصابها الصحيح بعد عملية بطولية حامية الوطيس لم تدم طويلًا.
بداية العهد الزاهر
تمكن الملك عبدالعزيز من طي زمن العهد الغابر في الرياض، وأعلن بداية العهد الزاهر في نجد، بعد أن بايعه أهالي الرياض وأعيانها عام 1320هـ أميرًا على نجد وإمامًا لأهلها؛ وذلك عقب صلاة الجمعة في ساحة المسجد الكبير بالرياض، فدب الاستقرار السياسي في مدينة الرياض بعد سنين من الاضطراب، وكانت وحدة الحكم من أهم العوامل التي مهدت دخول الرياض مرحلة جديدة من النمو الازدهار الحضاري.
واهتم الملك عبدالعزيز بتطوير البلاد، فأصدر مرسومًا ملكيًّا برقم 2716، وتاريخ 17 جمادى الأولى عام 1351 هـ، يقضي بتحويل اسم الدولة من (مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها ) إلى المملكة العربية السعودية، ابتداءً من يوم الخميس 21 جمادى الأولى 1351 هـ الموافق الأول من برج الميزان 23 سبتمبر 1932م.
ووجه الملك عبدالعزيز عند بداية تنظيم الدولة، بالاهتمام بالحرمين الشريفين وتوسعتهما، وخدمة الحجاج والمعتمرين، فضلًا عن البدء في فتح المدارس، وإنشاء المستشفيات، وبناء القرى، وإصلاح التربة، وتوطين البادية، والتنقيب عن مياه الري من أجل دعم الزراعة، بيد أن هذه الجهود كانت تصطدم بتوافر المال لتنفيذها، وهو ما أشغل تفكير الملك عبدالعزيز -رحمه الله- إلى أن أشار عليه أحد المستشارين بالبحث عن الثروات المعدنية تحت باطن الأرض.
وتماشيًا مع الرغبة في النهوض بالبلاد، بدأت في خريف عام 1933م عمليات التنقيب عن النفط في بعض أراضي المملكة، لكن مضت 4 أعوام عجاف لم تثمر أعمالها عن الوصول إلى نتيجة إيجابية مُرْضية لاكتشاف مكامن النفط، إلى أن قرّر الخبراء التنقيب حول بئر ماء في منطقة تسمى “عين جت” كان الملك عبدالعزيز قد توقّف عندها عام 1902م/1319هـ في طريقه من الكويت إلى الرياض، فكانت المفاجأة: وجود النفط على عمق 5 آلاف قدم تحت الأرض.
المملكة تنتعش بخير الذهب الأسود
وانتعشت الأرض الصحراوية بخروج الذهب الأسود الذي حوّل الصحراء القاحلة المؤنسة بهدير الرياح، إلى مدينة ديناميكية ممتلئة بالعمال والمهندسين وخبراء النفط. وفي عام 1939م جرت أول عملية ضخ للنفط في احتفال شهده الملك عبدالعزيز ، ليستهل بعدها مشروعات الدولة التي خطط لها وسط تحديات عالمية واجهت المملكة ودول المنطقة بسبب الحرب العالمية الثانية.
وكان اهتمام الملك عبدالعزيز بالشأن الخارجي بقدر اهتمامه بالشأن الداخلي للبلاد؛ إذ تعامل مع جميع دول العالم بدبلوماسية عالية المستوى، آخذًا بعين الاعتبار حق المملكة في استقلالها واختيار طبيعة علاقاتها مع الدول دون الإخلال بمكانتها الدينية، والحضارية، والثقافية، وهو ما جعله محبوبًا من مختلف قادة دول العالم، وحديث الإعلام العربي والإقليمي والدولي في ذلك الوقت.
من هنا، وصف الأديب والمفكر المصري عباس العقاد شخصية الملك عبدالعزيز بالقول: “كان الملك عبدالعزيز عنيدًا مع الأقوياء، متواضعًا مع الضعفاء، لكنه كان يسمع الرأي الآخر؛ فإذا اقتنع به رجع إليه؛ لأنه اتخذ من الحق والشريعة إمامًا وحكمًا”.
وفي شهر المحرم من عام 1373هـ، ترجل الفارس الملك عبدالعزيز عن صهوة جواده، بعد أن اشتد عليه المرض أثناء إقامته في الطائف. وفي فجر الثاني من شهر ربيع الأول من عام 1373هـ الموافق 9 نوفمبر 1953م فاضت روحه إلى بارئها.