كنا نتحلق حول التلفزيون لنشاهد برامج السعودية الأولى ونحن صغار ، وكان أهلنا يحذروننا من خطورة الإشعاعات المنبعثة من الشاشة ومن مخاطر المشاهد والبرامج التي نشاهدها باعتبارها خطر على أخلاقنا وقيمنا، كانوا محقين.. رغم أن برامج ومسلسلات ذلك الزمان تعتبر مثالية بكل ما تعنيه المثالية بالمقارنة ببرامج هذا الزمن الذي أُضيفت له برامج التواصل الاجتماعي بعالمها اللامنتهي..
كان التلفزيون السعودي - الذي لم يكن يعجب أهلنا - يشارك في تربيتنا دون أن نعلم ويعلمون..
كانت البرامج الدينية تعلمنا التوحيد والعقيدة والعبادات، وكان النقل الحي للصلاة من المسجد الحرام يعلمنا أركان الصلاة ويزرع فينا أهميتها ويشعرنا بقيمتها العليا في حياة المسلم..
كانت معظم المسلسلات والبرامج - ليست كلها- رسائل متتالية من القيم:
الصبر والشجاعة والكرم والتضحية والرجولة والرحمة وحسن الخلق وبر الوالدين والخير والفضيلة ..
وكان الصراع فيها بين الخير والشر ينتهي دائما بانتصار الخير في الحلقة الأخيرة ، مما يشعرنا بقوة الحق مهما توارى، وضعف الباطل مهما علا وظهر واستبد.
كانت البرامج الوثائقية والعلمية والثقافية تثري عقولنا وتفتّح مداركنا..
كان كل شيء يبث في التلفزيون يخضع للرقابة قبل عرضه على الشاشة والرقيب هو شخص عاقل وواع بطبيعة المجتمع ودينه وقيمه..
كانت البرامج تخضع لمقص الرقيب قبل الظهور ومراقبة الأهل بعد الظهور ..
وكان الواحد منا يذوب حياء وخجلا من والديه إن ظهرت لقطة خادشه للحياء - وقليلا ما تكون-!!
وبعد ذلك نذهب إلى المدرسة التي تزيد الخير بركة فتعزز فينا تلك القيم بل وتكافئنا عليها، فالطالب الخلوق له مكانته، والمحافظ على الصلاة له تقديره بين المعلمين والزملاء ، والطلاب المميزون لهم أدوارهم ومكانتهم في المدرسة ..
اليوم تتوارى شاشة التلفزيون وتتوارى معها رقابة الوالدين ومقص الرقيب رغم أن الجيل في أمس الحاجة لها، بل هو أكثر حاجة من جيلنا لوجودها في حياته..
اليوم تتوارى البرامج التربوية التي تحذر من انفلات القيم ، ويتوارى المصلحون والمثقفون الذين يسلطون الضوء على أمراض المجتمع الظاهرة والخفية.!
وتتوارى أدوار المدرسة التربوية شيئا فشيئا بدعوى التركيز على التعليم أولا..!!
والنتيجة هي إفساح المجال كليا للسوشل ميديا والإعلام الجديد ليجتاح عقول أبنائنا وبناتنا ويدمر مبادئهم ويبعثر مكتسباتهم ثم يرميهم على قارعة الحياة مجردين من كل شيء..
ابتذال في الطرح، استنقاص للعقول، هتك للكرامات ،نزع للحياء ، سخرية من الحشمة، إقصاء للفضيلة، واستباحة لدماء القيم العليا للمجتمع، وكل ذلك يؤدي ضمنيا للانسلاخ من الدين والاكتفاء بشرف الانتماء للإسلام شكليا..
وإذا كان من المستحيل أن تعود شاشة التلفزيون السعودي لتهذب الأخلاق، ومن الصعب أن تعود المدرسة لترفع شعار التربية قبل التعليم، ومن المستبعد أن يعود المصلحون والتربويون ليصدحوا بالحق والفضيلة ، فإن دور الأسرة والوالدين هو الأمل الوحيد الذي مازال يلوح في الأفق ، وهو الخيار الواحد والوحيد الباقي لإنقاذ الجيل المسكين من الانحلال كليا في الغثاء..
فإذا كانت أسرة الأمس تقوم بدورها رغم وجود العديد من الجهات المساندة التي شكلت قيم الجيل ومعتقداته، فإن أسرة اليوم هي المسؤول الوحيد عن هذا الدور بعد أن تحولت جميع الجهات المساندة إلى مدافع مضادة...