- الحديث عن العلم وفضله ورُتبته مما اتفقت على بيانه النصوص الشرعية، وأطنب العلماء في إيضاح شرفه، وقد استبان لكلِّ ذي لُبٍّ فضله ودرجته ورفعة أهله.
والنصوص الشرعية تواترت وتكاثرت على أن العلم هو أفضل طُلْبة، وأسمى رغبة، والله تعالى قَرَنَ شهادة أولي العلم بشهادته وشهادة الملائكة قال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أنه لا إله إلا هو والملائكةُ وأولوا العلم قائمًا بالقِسْط}.
ولا ضرورة لإيراد فضل العلم وأهله؛ لأن ضوء شمسه ساطع، ونور بدره لامع، وقد قال الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- : «كفى بالعلم شرفًا أنه يدعيه من لا يُحسنه، ويفرح إذا نُسب إليه من ليس من أهله، وكفى بالجهل خمولاً أنه يتبرأ منه من هو فيه، ويغضب إذا نُسب إليه».
وقد نظم هذا الكلام بعضُ العلماء فقال:
كفى شرفًا للعلمِ دعواهُ جاهلٌ “
ويفرحُ أن يُدْعَى إليه ويُنْسَبُ!
ويكفي خُمُولاً بالجهالة أَنَّنِي “
أُراعُ متى أُنْسَبْ إليها وأغضبُ
- والخُلق -بضم الخاء -: هو الطَّبْعُ، والسجيةُ، ويُطلق على الدِّين.
والخُلُق -بضم الخاء-: صورة الإنسان الباطنة، والخَلق -بفتح الخاء-: صورة الإنسان الظاهرة.
ولهذا فكما أن صورة الإنسان الظاهرة يعتورها الحُسْن والقُبح، والجمال والدمامة، ويسعى صاحبُها إمَّا إلى تحسين ما يظهر من قُبحه أو إخفائه قدر الإمكان، فكذلك يتجلَّى ذلك في باطن نفسه فالإنسان عنده من الصفات الحسنة التي يحتاج إلى الالتفات إليها والارتكاز عليها، وعنده من الصفات القبيحة ما يحتاج إلى قلعها ونزعها وتصفية نفسه من كدوراتها؛ وقد أخبر الله تعالى عن الإنسان بأنه ظلوم وجهول، ولا يرد -غالبًا- وصفُ الإنسان مُجرَّدًا في القرآن الكريم عن أي وصف إلا و جاء معه ما يشعر بالذم؛ قال تعالى: {إن الإنسان لفي خُسر}، وقال تعالى: {وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلاً}، وقال تعالى: {إن الإنسان لربِّه لَـكنود}، وغيرها من الآيات ..
ولمَّا كانت الأخلاق كامنة في النفس لا يمكن رؤيتها ولا هي من المحسوسات، جُعِل الكلام، والتصرُّف، والوجه، والحركة والسُّكون، والمعاملة مع الأهل والخلَّان ومن يخالِط الإنسان، دليلاً عليها ومُظْهِرًا لها.
والخُلق ينقسم إلى قسمين: محمود ومذموم، وفي الغالب أنه إذا أُطلق فإنه يُقصد المحمود منه؛ وقد رأيتُ بعد ذلك العلامة ابن عاشور -رحمه الله- نبَّه على ذلك وأشار إليه فقال: «والُخُلق: طِباع النفس، وأكثر إطلاقه على طباع الخير إذا لم يُتْبع بنعت»اهـ.
والخُلُق منه ما هو وهْبي فِطْري، ومنه ما هو كسبي.
وقد وصف الله تعالى في كتابه الكريم نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بأنه على خُلقٍ عظيمٍ، وحسْبك من وصفٍ يقول فيه الله تعالى بأنه عظيم، والخُلق العظيم أعلى رُتبة من مطلق الخُلق الحَسَن - كما قاله العلامة ابن عاشور-.
ولم يكن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه على خُلقٍ من الله تعالى فحسب، بل حتى أعدائه قد تواطئت أفواههم وتطابقت على وصفه بالصادق والأمين، ولو تأملتَ هذين الوصفين في شخص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لعَلِمتَ بأنَّ ذينك الوصفين ضروريان في كل رسولٍ من الله، فلزوم الصدق وصف به يستحيل أن يكذب على الإله، ولزوم الأمانة وصف به يستحيل أن يكتم شيئا أُمر بإبلاغه، وقد استنبط هرقل (ملك الروم) علامة نبوءته صلى الله عليه وسلم بأشياء، ومنها صدقه عليه الصلاة والسلام، وقال لأبي سفيان: «ما كان لِـيذر (يترك) الكذب على الناس ويكذب على الله!»
إن استواء كفتي ميزان الخلق والعلم أمر من الأهمية بمكان، فالعلم للأخلاق كالرُّوح للجسد، والجذور للشجر، وبالعلم يكسو العاقل أفعاله، ويُحلِّي بزينته أقواله، فهو المعيار للأقوال والأفعال والمقوِّمُ لها، وأعظم الخبال وأشنع الفِعال عندما يتخلَّف الخُلُق عن العلم، وينفصل عنه، وخطره يَكْمُنُ في أن صاحب العلم يُحلِّي مساوئه ويخلع على قبيح صفاته خُلَع العلم وحُلِيَّه، فيُكرِّه العامَّة في العلم وأهله، وهذا ما قد يحصل وقوعه، ويغلب على الظن حصوله!
والعمل على تهذيب الأخلاق والإكثار من النَّظر في الكتب التي تقوِّم الخُلق وتركيز المربِّين عليه للناشئة مما لابُدَّ منه، على أن يكون مساويًا لوعاء العلم أو يزيد؛ وقد مكث النبيُّ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة لم يُوحَ إليه بشيء، وكان في الأربعين سنة مثالاً لحُسن السلوك، واشتهر صلى الله عليه وسلم بالصدق والأمانة والعقل والعفاف؛ ثم أتاه الوحي وقد بلغ أشده واستوى.
وهكذا الأنبياء من قبل؛ فقد قال الله تعالى عن موسى -عليه السلام-: {ولما بلغ أشدَّه واستوى آتيناه حُكمًا وعلمًا}، وقال عن يوسف -عليه السلام-: {ولما بلغ أشدَّه آتيناه حُكمًا وعلمًا}.
ومَنْ ملأ نفسه بالأخلاق الفاضلة، وهذَّب قلبه وجوارحه عن شوائب الأخلاق المذمومة، تلقَّى العلم بنفسٍ زكيِّة، وأصبح شجرةً طيبةً يتفيأ الناس تحت ظلالها، ويجتنون من طِيب ثمارها.
ومن اهتمَّ بالعلم وغفل عن تهذيب نفسه من الأخلاق المذمومة، وظنَّ أن العلم كافٍ في سلوكه مسالك الصالحين، وترقِّيه مراقي الفالحين، فقد طاش سهم ظنِّه، وأضاع -فيما لا ينفعه- ثمن سِنِّه.
وأخبر الله تعالى في كتابه الكريم أنَّ نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- قد استوى عنده ميزان العلم والخُلق، فقال سبحانه عن العلم: {وعلَّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا}، وقال عن خُلقه صلى الله عليه وسلم: {وإنَّك لعلى خُلقٍ عظيم}.
إن الأخلاق هي بطانة العلم وظِهارته بل هي الدِّين كلُّه، ولهذا رُوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في تفسير قوله تعالى: {وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم}: «وإنك لعلى دِينٍ عظيمٍ»؛ وقد قال ابن القيم -رحمه الله- :
«الدِّينُ كُلُّه خُلُق، فمَنْ زاد عليك في الخُلُق، زاد عليك في الدِّين».
وإذا أردنا أن نُخرج جيلاً معتدل الميزان في العلم والخُلُق فعلينا أن نغرس فيهم محبة النبي صلى الله عليه وسلم بقراءة سيرته عليهم واستخراج فضائل الأخلاق من مواقفه الشريفة؛ لأن المتعلِّم يحتاج إلى أن يُبْصِر القدوة الحسنة أمامه، وخير قدوة يَحتذي بها طالب العلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وينبغي أن نشْحذ هممَهم بقراءة الكتب التي تحدَّث العلماء فيها عن جانب الأخلاق، وأن يسعى أولوا النُّهى إلى تصفية ما عَلِق بعاداتنا وأعرافنا من صفات تُخالف الشرع، وكما قيل:
والعُرفُ إنْ خالف أمرَ الباري * وَجَـبَ أن يُنـبذ بـالبـراري
التعليقات 1
1 pings
محمد الحذيفي
2015/04/19 في 10:23 ص[3] رابط التعليق
بارك الله فيك ونفعنا بما علمك وبارك لك في علمك وزادك فضلا وعلما ورفع درجتك في عليين .. ان شاء الله .
(0)
(0)