غرق الشاب محمد للحظات في أحلامه المخملية، وراح يتخيل بيت العمر الذي يضمه مع خطيبته التي اختارها بنفسه ، وقد امتلأ بصخب الأطفال وجمال الأحلام..
ولمَ لا وهو الضابط الطموح الذي بدأ في قطف أحلامه مبكرا وأحدها هذه السيارة الجميلة التي يستقلها، لكنها كانت ثوان فقط تلك التي جعلت كل تلك الأحلام تتناثر على قارعة الطريق ومن بينها ذلك الجسد الطري الذي تحول إلى كومة من العظام المحطمة!!
أحتاج محمد إلى ٦ أيام ليستيقظ من غيبوبته ويصطدم مباشرة بواقعه الجديد المشوه الذي لا يشبه ما قبله ولا يمت له بأي صلة..
شاب معاق محطم فقد كل شيء ، كل شيء بلا استثناء ماعدا دموعه التي تحجرت مع الوقت ، ونحيبه الذي تلاشى مع الأيام ،وأنينه الذي خفت شيئا فشيئا ، لتصبح أعماقه وكرا للأحزان وعذابات الإنسان..
كانت اللحظة الحاسمة في حياة الشاب العاجز محمد عندما دخل عليه شاب مثله يسير على عكازين واقترب منه شيئا فشيئا ونظر لملامحه التي سرقها العجز ، ورأى في عينيه قبائل مصطفة من الأحزان والأسى والاستسلام ، فأخبره بحزم أنه كان مثله تماما قبل أربع سنوات، كان بحاجة لمن يطعمه ويلبسه بل ويساعده في قضاء حاجته، لكنه رفض الواقع وكسرت إرادته الفولاذية جليد العجز، كان واضحا من عكازيه كيف كانت عزيمته وأين بلغت..
رمى كلماته تلك وغادر الغرفة، لكنها قرعت في روح محمد طبول الأمل وشعر- لأول مرة منذ سنتين- بابتسامة تائهة تحاول الظهور على شفتيه الذابلتين،لكن المحاولة انتهت بمزيج من الضحك والبكاء،كطفل صغير تضاربت مشاعره فعجز عن السيطرة عليها، أو التعبير عنها..
لكنه اتخذ قراره الأول بالخروج من المستشفى ، ثم بدأ في العلاج والتمارين، ولم يكسر حماسه أن التحسن يكاد يكون صفرا..
لقد كان بداخله نور يضيء روحه كلما حل الظلام، وفي أعماقه أمل يقلم أنياب اليأس كلما نهشت من عزيمته..
بالطبع لن نقول أن محمدا حطم كرسيه المتحرك ورمى به في واد سحيق بعد أن تغلب على إعاقته..
آمن محمد أن الله الذي كتب عليه الإعاقة في أجزاء من جسده، لازال يكتب له الحياة في الأجزاء الأخرى ..
أن عقله ما زال يضيء، وقلبه لازال ينبض، وروحه لازالت تشع منها الأنوار، ولسانه لازال يقطر وأعماقه لازالت تمطر..
حقق محمد الإنجاز تلو الإنجاز بعد أن توظف في مدينة الأمير سلطان للخدمات الإنسانية كملهم ومحفز للمرضى ، طاف بكرسيه المتحرك دول الخليج العربي على دراجة نارية،
ثم طوع محمد ذلك الكرسي الجامد ليصبح طرفين تتدفق فيهما الحياة، فصعد وهبط به الدرج بخفة متناهية، رقى به قمم الجبال وهوى به للوديان ووشم بعجلاته وجه الصحراء والبراري..بل واخترع برنامجا خاصا بمهارات الكرسي المتحرك وكان برنامجا فريدا من نوعه..
تم تكريمه من سمو الأمير سلطان رحمه الله ، ثم حاز على جائزة أفضل ممثل مسرحي في الخليج ، ثم ترك الأرض وحلق في السماء ليكون أول طيار في الشرق الأوسط على كرسي متحرك..!!
لا أحد يعلم تحديدا إلى أين تقود الهمة العالية الشاب الملهم محمد الشريف ، الرجل الذي حقق بعد الإعاقة أضعاف الإنجازات قبلها..
ولا أحد كان يتخيل أنه سوف ينجح في جمع أحلامه المتناثرة على قارعة الطريق قبل سنوات، ليحققها واحدا تلو الآخر دون أن يتنازل عن أي منها، وعلى رأس تلك الأحلام تكوين أسرة جميلة مع خطيبته التي أصبحت أما لأطفاله، ثم الوقوف على قدميه بعد أن ظن الجميع أن ذلك ضربا من المستحيل..
لكن المستحيل توارى في خجل عندما أصبح “الضابط” قبل الإعاقة “طيارا” بعدها!!
فاطمة السهيمي