عاد الفتى اليافع محمد من مدرسته والدموع تترقرق في عينيه،. وابتدر والدته والغصة تخنق كلماته:
لقد رسبت في الرياضيات!!
وبسبب الرياضيات اضطر محمد أن ينفق سنة أخرى من عمره في نفس الصف ( ثالث متوسط ) في وقت كانت تنتظر والدته أن يسابق السنين ويصبح معلما ليتولى مسؤولية العائلة ،التي تركها الشيخ عيسى وراءه ، تقتات على معونة الضمان الاجتماعي التي لا تتجاوز الألف ريال في العام كله!!
وظلت عينا الفتى محمد - المسؤول الأول عن عائلته - تتهادى بين بقالة والده التي توارت برحيل صاحبها وبين كتاب الرياضيات الذي وقف حجر عثرة في طريقه ، وبين نظرات أشقائه البائسة ودعوات والدته التي تبلل أطراف الليل..
اجتاز محمد عقبة الرياضيات في العام التالي، ولم يضع الكثير من الوقت ، سافر فورا إلى جدة لينجح في الالتحاق بورشة لإصلاح السيارات، وكان على قدر كبير من الصبر والعزم ليتعلم أسرار هذه المهنة الشاقة، لكن رئيسه في الورشة كان صارما وحاد الطباع لدرجة أنه كاد أن يكسر ساقه بقطعة حديدية لأنه أخطأ في تنظيف أحد الأدوات، وهنا هرب الشاب الصغير تاركا أجرته.. ليعمل مجددا في ورشة نجارة ،ولكن الأمر انتهى بالاستغناء عنه، فضاقت عليه الأرض بما رحبت، خصوصا أن والدته كانت ترفض جميع المهن التي جربها..وربما كان من ثمرات دعائها افتتاح معهد المعلمين بالقنفذة ، حيث التحق به ولدها فورا محققا لها حلمها الغالي الأثير،عام ١٩٩٣ كأول دفعة في محافظة القنفذة ، واستمر ست سنوات في التعليم ،حسّن خلالها المستوى المعيشي لأسرته ، مما أزاح عن كاهله حملا ثقيلا، فتنفست أحلامه من جديد، وقرر مواصلة مسيرته العلمية، ولكن من أجل طموحه هذه المرة وليس من أجل المال..
هنا أطلت الرياضيات برأسها من جديد، فالمعلم محمد لم ينس يوما ذكرياته المؤلمة معها..لقد حانت المواجهة، وآن الأوان أن تصبح عثرة الأمس مطية اليوم نحو الأحلام البعيدة..
كان التحدي صعبا لأن عدد المتقدمين تجاوز ١٥٠ معلما والمطلوب خمسهم فقط ، والاختبارات هي الفيصل، الأمر الآخر أن نظام الكلية ينص على أن الفصل الأول هو الفيصل في الاستمرار في الكلية، في حال الإخفاق يُستبعد الطالب فورا ويطوى قيده..!!
حسنا لماذا يضع محمد الشاعري نفسه في هذا الموقف الصعب؟!
ألا يختار تخصصا أسهل !؟
أو يتراجع عن الفكرة تماما حتى لا يعود له شبح الأمس وتمد له الرياضيات لسانها ساخرة من هزيمته للمرة الثانية !؟
لكن هذه المرة ستكون الهزيمة أصعب وأكثر وجعا،سواء كانت في عدم اجتياز اختبار القبول أو الإخفاق في الفصل الأول، فالرجل أصبح معلما معروفا، ودائرة معارفه اتسعت، وطلابه يرقبون الحدث، والمجتمع على علم بتفاصيل التحدي..
كل هذه الاعتبارات لم تثنِ عزيمته، استجمع قواه، وجلس مع فطاحلة الرياضيات الذين يعرفهم ليبدأ رحلة التحدي بتحديد نقاط ضعفه في المادة والعمل على تقويتها، جمع جميع مناهج الرياضيات التعليمية من الصفر إلى الثانوية، وعكف على دراستها، منحها وقته وجهده متبعا استراتيجية واضحة ، وخطة محكمة..(هنا ظهرت مواهبه القيادية تعبر عن نفسها على استحياء)
وبالطبع لن يفاجئكم اجتيازه لاختبار القبول بنسبة ١٠٠٪
وانخراطه بعد ذلك في الكلية طالبا نهما لا يتوقف عقله عن ابتلاع الأرقام وبرمجتها..ليحصل على الدبلوم بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف محققا المركز الأول على الدفعة!!
وهنا بزغ نجمه في المنطقة ،بعد أن كافأته وزارة التربية التعليم ماديا على تفوقه الباهر، فيما قام المسؤولون بدورهم تجاهه فتم السماح له بتدريس المتوسطة والثانوية للاستفادة من مواهبه الفذة في هذا المجال، مطوعين النظام لخدمة المصلحة التعليمية، (وهو أمر يُحسب لمدير التعليم آنذاك الأستاذ بلقاسم الشريف، ومدير التعليم حاليا الدكتور محمد الزاحمي الذي كان مشرفا حينها للرياضيات).
ولم يكن فارس الرياضيات أقل من تطلعات المسؤولين، بل كان كان أهلا لثقتهم، فأسس أول معمل رياضيات في المحافظة، وكان رائد دمج التقنية بالتعليم في مدارسها..
ثم واصل حمل رسالته لكن خارج حدود المملكة عندما درس مادته في باكستان وسلطنة عمان وعاد منهما محملا بالتطلعات والخبرات وعشرات الشهادات التقديرية من مختلف الجهات المحلية والدولية..
ولم يتوقف عند هذا الحد، فقد واصل فارس الرياضيات شغفه وأكمل دراسته حاصلا على البكالوريوس محققا المركز الأول على دفعته كعادته، ثم واصل مسيرته نحو الماجستير فالدكتوراة فاتحا لنفسه المجال لخوض غمار العمل القيادي الذي اتضحت معالمه في رحلة التحدي الكبيرة التي خاضها في مشواره التعليمي الحافل مع الرياضيات..فأثرى الميدان القيادي كما فعل في الميدان التعليمي ابتداء من توليه مهمة الإشراف على مادة الرياضيات وانتهاء بتوليه منصب مساعد مدير التعليم في القنفذة..
ولم يكن مشواره في القيادة مفروشا بالورد، بل كان محاطا بالأشواك التي أحاطت بخطواته الطويلة مع الرياضيات ، بل ربما كانت أكثر قسوة وليس أدل على ذلك - على سبيل المثال- من صدور أمر إعفائه من عمله القيادي في مركز الإشراف وإعادته معلما للمرحلة الإبتدائية بدون أسباب تذكر..
لكن كل ذلك من يفت من عضده الذي اعتاد على تقبل الصدمات وركوب أمواج التحديات موجة بعد موجة، ومرة بعد مرة..حيث واصلت شمسه السطوع في سماء العمل الإداري بكل تحدياته ومتاعبه ، حتى تسنم ذروته ، عندما تربع على مقعد مساعد مدير التعليم، ليصبح الرجل الثاني في تعليم محافظة القنفذة..!
وبعد أربعين عاما ترجل الفارس متقاعدا من عمله الحكومي، ولكن ليس ليستكين للراحة التي لم يبحث عنها يوما، وإنما ليمتطي فرسا آخر في ميدان التعليم الخاص، واضعا بصمته الكبيرة على جبين النجاح من جديد، حيث يقود حاليا مجموعة مدارس الشعاع الأهلية التي نقلها بملكاته القيادية ومواهبه الذاتية إلى مصاف المدارس الرائدة التي يشار لها بالبنان على مستوى منطقة مكة المكرمة قاطبة..
نصف قرن من الزمان تنحني إعجابا للفارس النبيل، وتصفق احتراما لقصته الملهمة، و” تقلط” معه على مائدة الكفاح والنجاح ، الإخفاق والانطلاق ، الحزن والمزن، التعثر والتبصر، خيبات الأمل وتجليات العمل، غياب الأقمار وانبلاج الأنوار، غصص الإحباط وثمار النشاط ، والجولات الخاسرة تدس وجهها في رايات المعارك الحمراء ، التي امتدت لخمسين عاما بين بقالة الشيخ عيسى التي أوصدت أبوابها، تمهيدا لكسر القفل الأول من بوابة المجد الخضراء..
التعليقات 2
2 pings
علي ميس المنتشري
2020/10/25 في 8:38 م[3] رابط التعليق
ابدعتي واتقنتي قصة الخمسين عام مع نجمها الذي اجتهد حتى نال ما يريد وكسب محبة الجميع
(0)
(0)
حسن الناشري
2020/10/27 في 12:03 ص[3] رابط التعليق
قصة كفاح لم أكن أتصورها لشخصية مرحة مبتسمة بشوشة يشعرك بأنه ذاك المحتاج لفكرك ورأيك ويفاجئك بما تخجل أن اقترحت عليه رأيك إذ تجد الرأي السديد والطريقة المناسبة والحل الصحيح .. عرفته بتجمع لمدراء المدارس بعدها أتخذته قدوة في عدم اليأس أو التوقف عن العمل .
(0)
(0)